و عنده الرّفع و الخفض ، أحمده سبحانه و أشكره ،
الملائكة من خشيتِه مشفِقون ، و كلّ من في السموات و الأرض له قانتون ،
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ،
هو القاهِر فوق عباده ، و لا يكون شيء بغير مرادِه ،
و أشهد أن سيّدنا و نبيّنا محمّدًا عبد الله و رسوله خير البشريّة و أزكاها ،
و أبرّها و أتقاها ، صلى الله و سلَّم و بارك عليه ، و على صحبه و آله
عَضّوا على السنّة بالنّواجذ و تمسّكوا بعُراها ،
و التّابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و سلّم تسليمًا كثيرًا لا يتناهى .
أمـــا بعـــد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله رحمكم الله ،
و عظموا أمرَه و حرماتِه ، الزموا الإخلاص في الطاعة ،
و تمسّكوا بطريق أهل السنة و الجماعة ، و حافظوا على الجُمَع و الجماعة ،
تفوزوا بأربح بضاعة ، و إن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاتُه و تذهبُ بالتقصير أوقاتُه
لخليقٌ أن تجريَ دموعُه ، و حقيق أن يقلّ في الدجى هجوعه .
أيها المسلمون ، جرت سنةُ الله عز و جل في خلقه أن لا يقوم لهم معاش
و لا تستقيم لهم حياة إلا بالاجتماع و التآلف ،
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ }
[الحجرات:13] .
إن نزعةَ التعرُّف إلى الناس و الاختلاط بهم نزعةٌ أصيلة في التوجيهات الإسلامية .
بالعيش مع الجماعة و الانتظام و حسن العلاقة تستقرُّ النفوس ، و تصحّ العلوم ،
و تنتشر المعارف ، و تبلغ المدينة الفاضلة أشدَّها ، فيُعبدُ اللهُ على بصيرة ،
و تتَّضحُ معالم الدين ، و يسودُ المعروف ، و يقلُ المنكر .
إن إيثارَ الإسلام للاجتماع يظهر في كثير من أحكامه و آدابه ،
إن العبادات و هي من أشرف المطلوبات ليست انقطاعًا في دير ، أو تعبداً في صومعة .
لماذا شُرعت الجماعات في الصلوات ؟ و لمن فُرضت الجمعات ؟
و ما الحكمة في العيدين و الاستسقاء ، و الكسوف و الجنائز ،
ثم إجابة الدعوات في الولائم و المناسبات ، و الاجتماع في أوقات السرور و المباهج ،
و في أوقات الشدائد و المكاره ، في الأعياد و التعازي ، و عيادة المرضى ،
و تشييع الجنائز ؟ إن ذلك كلَّه لا يتحقَّق على وجهه إن لم تتوثّق في الأمة العلاقات ،
و تُحفَظ حقوق الأخوَّة و الجماعة .
إن أهلَ الإسلام إذا كثر عددُهم و اجتمع شملُهم كان أمرُهم أزكى و عملهم أتقى ،
كما جاء في الحديث الشريف :
(( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ،
و صلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ،
و كلما كثر كان أحبَّ إلى الله ))
أخرجه ابن ماجه و ابن حبان و غيرهما ، و صححه غير واحد من أهل العلم .
و من ذا الذي لا يرغب في تكثير سواد المسلمين ،
و رؤيتهم جموعاً متراصَّة لا فرادى متقطعين ؟!
يقال هذا ـ أيها الإخوة ـ و المراقب يلحظ أنَّ في بعض الناس
و بخاصة بعض المنتسبين إلى العلم و الفضل و الصلاح عزوفاً عن الاجتماع و الخلطة ،
وميلاً إلى الانفراد و العزلة ، و قد يظهر منهم نحو إخوانهم جفاءٌ و نفرة .
كيف تتحقق الأخوة الإيمانية في غير اجتماع ؟!
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
[الحجرات:10] ،
و كيف تتحقق الشورى إذا اعتزل المسلم الجماعة ؟!
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ }
[الشورى:38] ،
وحينما يدعو العبد من عباد الرحمن :
{ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }
[الفرقان:74]
متى يكون منعزلٌ عن إخوانه ـ مثلاً ـ إماماً في الدعوة و الهداية ، يشهد الناس سيرتَه ،
يتأسَّون بالحميد من فعاله ، و يقتدون بالحسن من لحظه و لفظه ؟!
أيها الإخوة في الله ، من أجل المحافظة على الجماعة شُرعت في الإسلام أحكامٌ و آداب ،
شُرع إلقاءُ السلام و إفشاؤه ، و جُعل ردّه واجباً ،
شرعت المصافحة و التبسم و طلاقة الوجه ، أمِر بإظهار المحبة و التودّد ،
نُدب المؤمنون إلى تبادل الهدايا و الإحسان لذوي القربى
و اليتامى و المساكين و ابن السبيل ، و حُرِّم عليهم أسبابُ النزاع
و جالبات العداوة و البغضاء و مقتضياتُ التقاطع و التدابر من الخمر و الميسر
و الغشّ في المعاملات و الهجر في القول و الخصومات الفاجرة .
إنَّ معظمَ خصال الشرف و محاسن الأخلاق لا تكون إلا لصاحب الخُلطة
و حسن العشرة ، كيف يكون السخاءُ لمن لم يمدَّ يدَه شفقةً و إحساناً ؟!
و كيف يقع الإحسان موقعَه إن لم يسبق ذلك معرفةٌ بأحوال الناس ؟!
و هل يظهر الحلم و الأناة إلا حين يقابل به صاحبُه أصحابَ الألسن الحداد
و القلوب الغلاظ ؟!
في العيش مع الناس يقول أهل الحق للمبطلين في موعظة و حكمة :
الصوابُ في غير ما نطقتم ، و الحقّ في غير ما رأيتم ،
و الخير في غير ما سلكتم . كيف يكون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
و الدعوةُ و الجهاد و الإصلاح من أجل أن تكون أمةُ
محمد صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم خيرَ أمة أخرِجت للناس ؟!
و من ثمَّ فإنك ترى الأخيار من أهل العلم و الفضل يغشَون المجامع ،
و يحضُرون المنتديات ، فيقولون طيِّباً ، و يعملون صالحاً ،
و في الحديث الشريف :
(( المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم
خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم )) ،
و يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه :
( خالطِ الناس ، و دينَك لا تَكْلِمنَّه ) .
أيها الأحبة ، قد يتذرّع بعضُ الأخيار بفساد الزمان و كثرة سبل الضلال
و نشاط دعاة السوء ، أما علموا ـ وفقهم الله ـ أن العزلةَ تزيد صَولاتِ الضلال ،
و تتَّسع بها ظلماتُ المجتمع ؟! لماذا لا يكون التوجّه في مقاومة أصحاب الضلالات
و ذوي الأهواء ؟ و من وضع يدَه مع الجماعة و شدَّ أزر إخوانه فقد قام بنصيبه من الخير ،
و إذا اعتذر فضلاءُ آخرون بالرغبة في العزلة من أجل قضاء الوقت
في العبادة و النظر في حظوظ النفس من الخير فليعلموا ـ رعاهم الله ـ
أن حضورَ مجالس العلم إفادةً و استفادة هي من العبادة ، و عيادة المريض عبادة ،
و القيام بحقوق الإخوان عبادة ، و إرشاد الناس عبادة ،
و مدَّ يد العون و المساعدة لتقوى الشوكة و يتحقَّق المزيدُ من الألفة و القوَّة كلُّ ذلك عبادة ،
و لئن كان في العزلة تخلُّصٌ من الوقوع في الأعراض و بعدٌ عن النميمة
و الغيبة و التنابز بالألقاب و غيرها من الأخلاق الرديئة ،
فإنَّ في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعائب ، و يبصِّر بتلك المثالب ،
و إن لم تُجدِ النصيحة في موقع فإنها مُجدية في موقع آخر ،
و إن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافع في وقت آخر ، و المهمة في البلاغ ،
و الهداية بيد الله ،
{ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ }
[محمد:4] .
و إن ما يُنقل من الرغبة في العزلة عن بعضِ من سلف فإنما هي أحوال خاصّةٌ
تعرض لمن تعرِض له ، فتجعل الاعتزالَ عنده أرجحَ ،
و لا يُمكن أن تكون العزلة مذهباً يسَع الناسَ كلَّهم .
و حينما يكون الحثُّ على الجماعة و الاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ
جميع الأوقات في التردّد على البيوت و غشيان جميع المجالس ،
فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه ؛ ليقوم بواجبٍ خاص ،
أو يتقرَّب بنافلة ، أو يقضيَ مصلحة ، و في مثل هذا يقول عمر رضي الله تعالى عنه :
( خذوا حظّكم من العزلة ) .
فالمسلك العدلُ و المنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة
و خلوةٍ نافعة ؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه .
و في الخلطة يتخيّر المؤمنُ إخواناً يصطفيهم لنفسه ،
يعيش في أكنافهم من أهل الصدق و الصلاح و الوفاء ، فإنهم زينة في الرخاء ،
و عُدّة في البلاء ، و قد قيل في الحكمة : مِن أعجز الناس من قصَّر عن طلب الإخوان ،
و أعجزُ منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودّتهم ،
و إنما يُحسنُ الاختيار لغيره من أحسن الاختيار لنفسه .
و يقول علي رضي الله تعالى عنه :
( شَرْطُ الصحبة إقالة العثرة ، و مسامحة العِشرة ، و المواساة في العسرة ) .
و على الإخوة في علاقاتهم الابتعاد عن التكلّف ، و تجنّب التصنّع الثقيل ،
فإشاعةُ اليُسر في المسالك و البعدُ عن المواقف الحرجة و المداهنات البغيضة
مما يوثِّق العرى ، و يجلب المودّة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
{ يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ
وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ *
وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحاً
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *
وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ
إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ }
[لقمان:17-19] .
نفعني الله و إياكم بالقرآن العظيم و بهدي محمد صلى الله عيه و سلم ،
و أقول قولي هذا ، و أستغفر الله لي و لكم ، و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة ،
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم