و قول الرّسول :
(( إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَى اثنان دون الآخر
حتى تختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزِنَه))
رواه مسلم ،
و كقول النبي في أنواع الرؤيا المناميّة :
(( و رؤيا تحزين من الشيطان ))
رواه البخاري و مسلم .
أيّها المسلمون ، إنَّ الفهمَ الإسلاميَّ الصحيح في التعاملِ مع الأحزان فهمٌ فريد من نوعِه ،
و إنما اختصَّت به أمّةُ الإسلام دونَ غيرها لأنّ مفهوم غيرِ المسلمين في التعامل
معها يُعَدّ ضيِّقَ النطاق تافِهَ الغاية ضعيفَ العِلاج ؛ إذ ينحصر التعاملُ مع الأحزان
عندهم في العويلِ و اللّطم و الإنتحار و المصحَّات و العقاقير المهدِّئَة
و تعاطي المسكِراتِ و المخدِّرات و الغناء و المعازِف ليس إلاَّ ،
و أمّا الفهمُ الإسلاميّ فقد تجاوز مثلَ ذلكم التعامل بمراحل ،
فصار الفهمُ الشرعيّ للحزن خمسة أضرُب :
أوّلها :
الحزنُ المكروه كراهةَ تنزيه ، و هو الذي يكون على فواتِ أمرٍ من أمور الدنيا ،
و مثلُ هذا الضرب ينبغي للمرء أن يتغلَّب عليه لقوله تعالى :
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
[ الحديد : 22، 23 ] .
و الضّرب الثاني :
الحزن الواجبُ ، و هو الذي يعدُّ شرطًا من شروط التوبةِ النصوح ،
و المتمثِّل في الندم على فعل المعصية ، و النّدم حُزنٌ في القلب يكون بسبَبِ
ما اقترفته اليدان من المعاصي و الذنوب .
و الضرب الثالث :
الحزن المستحبّ ، و هو الذي يكون بسبَب فوات الطاعة و ضياعِها على المرء ،
كما في قوله تعالى عن موقفِ الفقراء الذين لم يحمِلهم النبيّ في غزوة تبوك :
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
[ التوبة : 92 ، 93 ] .
فهم هنا مدِحوا على ما دلَّ عليه الحزن من قوّةِ إيمانهم ، حيث تخلّفوا عن
رسول الله لعجزِهم عن النفقةِ ، بخلاف المنافقين الذين لم يحزَنوا على تخلّفهم ،
بل غَبطوا نفوسَهم به .
و الضرب الرابع عباد الله :
هو الحزن المباح ، و هو الذي يكون بسبَب نازِلة و مصيبةٍ أحلَّت بالمحزون
كفقدِ ولدٍ أو صديق أو زوجةٍ أو غيرها ، كما قال تعالى عن يعقوب عليه السلام
في فَقدِ ابنه يوسف عليه السلام :
وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
[ يوسف : 84 ] ،
و كما فعل النبي حينما مات ولده إبراهيم فقال :
(( إن العينَ لتدمع ، و إنّ القلب ليحزن ، و لا نقول إلا ما يرضِي الربَّ ، و إنّا على فراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون ))
رواه البخاري و مسلم .
و الضرب الخامس من ضروب الحزن :
هو الحزنُ المذموم المحرَّم ، و هو الذي يكون على تخاذلِ المتخاذلين
و المعرضين عن الحقّ و عن شِرعة الله تعالى لقوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
[ المائدة : 41 ] ،
و قوله :
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
[ الكهف : 6 ] ،
و قوله :
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
[ النمل : 70 ] ،
و قوله :
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ
[ فاطر : 90 ] .
ويستثنى من ذلكم ـ عباد الله ـ إذا كان الحزنُ لما أصابَ أمثالَ هؤلاء سببُه الإعتبارُ
و الإدّكار و إستحضار عظمَة الله سبحانه و قدرَته على الإنتقام من المعاندِين الضّالين ،
كما في قصّة أبي الدرداء رضي الله عنه حينما بكى و حزن
و قد رأى دولةَ الأكاسرة تهوي تحتَ أقدام المسلمين ، و قد قال له رجل :
يا أبا الدرداء ، تبكي في يومٍ أعزّ الله الإسلامَ و أهله ؟!
فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه :
( ويحك يا هذا ، ما أهونَ الخلق على الله إذا أضاعوا أمرَه ،
بينما هي أمة قاهرة ظاهرةٌ ترَكوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى ) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[ يونس : 62 ، 64 ] .
بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم ، و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم ،
نفعني الله و إياكم بالقرآن العظيم ، و بهدي محمد ، و أقول قولي هذا ،
و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة ،
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .