أيها الإخوة ، عدلٌ في كل ميدان ، و قسط يكفل الحق للناس كل الناس
و لو كان من غير المسلمين و الأعداء المناوئين :
(( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ))
[المائدة:8] .
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان ،
عدلٌ يتم فيه ضبط النفس و التحكم في المشاعر.
إنه القمة العليا و المرتقى الصعب الذي لا يبلغه إلا من
رضي بالله ربًا ، و بالإسلام دينًا ، و بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبيًا و رسولاً ،
و بدينه دستورًا و حكمًا . إنه عدل محمد عليه أفضل الصلاة و السلام ،
مكيالٌ واحدٌ و ميزانٌ واحدٌ .
و لقد انتظر بكم الزمان ـ أيها الأخوة ـ و طالت بكم الحياة حتى رأيتم
أممًا آتاها الله بسطة في القوة و السيطرة فما أقامت عدلاً ،
و لا حفظت حقًا، ويلٌ لهم و ما يطففون ، إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون ،
و إذا كالوا لغيرهم أو وزنوهم يخسرون .
و لكن هدي محمد صلى الله عليه و سلم يأبى إلا الحق :
(( وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ))
[الشورى:15] .
إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو و نصب ميزان العدل إلا حينما
تكون قائمةً بالقسط لله خالصةً مخلصة ، قد تلبست بلباس التقوى :
(( ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))
[المائدة:8].
و العدل ـ أيها الأخوة ـ كما يكون في الأعمال و الأموال فهو مطلوب
في الأقوال و الألفاظ :
(( وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ))
[الأنعام:152] .
و لعل العدل في الأقوال أدق و أشق . وصاحب اللسان العدل يعلم
أن الله يحب الكلام بعلم و عدل ، و يكره الكلام بجهلٍ و ظلم :
(( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ
وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))
[الأعراف:33] .
تأملوا هذا الإنصاف النبوي في القول حينما أعلن النبي عليه الصلاة و السلام
حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره حين قال عليه الصلاة و السلام :
(( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل )) .
ثم ها هو صاحبه عثمان بن مظعون رضي الله عنه يسمع البيت كاملاً ؛
فيترسم النهج نفسه في التقويم و العدل فُيحق الحق و يقول القسط ،
فقال في شطره الأول صدقْتَ ،
و لما قال الشطر الثاني : ( و كل نعيم لا محالة زائل )
قال : كذبت ، نعيم الجنة ليس بزائل .
و هذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه ،
فلما سئل عنهم : أمشركون هم ؟
قال : هم من الشرك فروا .
قيل : أفمنافقون هم ؟
قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً .
قيل: فما هم يا أمير المؤمنين ؟
قال: هم إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم .
و من لغير هذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه
و عن ذريته الطيبين الطاهرين ؟! و هل بعد هذا الإنصاف من إنصاف ؟!
أيها الأخوة ، إذا ساد العدل حُفظت الحقوق ،
و نصر المظلوم و ولت الهموم ، و أدبرت الغموم .
أما حينما يتجافى الناس عن العدل و يقعون في حمأة الظلم ينبت فيهم
الحقد و القطيعة و الفرقة و ذهاب الريح .
من تجافى عن العدل دخل دائرة الظلم ، يأخذ و لا يعطي ، و يطلب و لا يبذل ،
يأخذ الذي يستحق ، و يمتنع عما يحق ، تغلبه مسالك المنافقين :
(( قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ))
[آل عمران:154] ،
(( وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ *
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ))
[النور:48، 49] .
إن الحَيْف و سلب الحقوق و إهدار الكرامات مبعث الشقاء و مثار الفتن .
إن قومًا يفشو فيهم الظلم و التظالم ، و ينحسر عنهم الحق و العدل
إما أن ينقرضوا بفساد ، و إما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم يسومونهم خسفًا ،
و يستبدون بهم عسفًا ، فيذوقون من مرارة العبودية و الإستذلال
ما هو أشد من مرارة الانقراض و الزوال . إن الظلم خراب العمران ،
و خراب العمران خراب الأمم و الدول .
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب و الشهادة ، و كلمة الحق في الغضب و الرضا ،
و نسألك القصد في الفقر و الغني ، و نسألك الرضا بعد القضاء ،
و نسألك برد العيش بعد الموت
و نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة ،
اللهم زينا بزينة الإيمان ،
و أجعلنا هداةً مهتدين أستجب اللهم يا رب العالمين .
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، و أستغفروا ربكم إنه كان غفاراً .
نفعني الله و إياكم بالقرآن العظيم ، و بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم ،
أقول قولي هذا ، و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة ،
فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله شمل الأنام بواسع رحمته ، و صرَّف العالم ببالغ حكمته ،
لا يشغله شأنٌ عن شأن و هو الحكيم الخبير .
أحمده سبحانه و أشكره و أتوب إليه و أستغفره ،
و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدًا عبده و رسوله ، أصدق الناس في الأقوال ،
و أجملهم في الأفعال ، و أعدلهم في الأحكام ،
صلى الله و سلم و بارك عليه وعلى آله و صحبه خير صحبٍ و آل ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم المآل .
أمـــا بعـــد :
فاتقوا الله أيها الناس ، و أستقيموا إليه و أستغفروه ،
و أعدوا من الأعمال الصالحة ما يقربكم زلفى لديه .
أيها الإخوة ، و كما يكون العدل في الأبعدين فهو في الأهلين و الأقربين حق و حتم .
و أحق الناس بالعدل أبناؤك . فمن ابتغى بر أبنائه و بناته يحبونه في حياته
و يترحمون عليه بعد مماته و تصفو قلوبهم فيما بينهم فليتق الله
و ليقم العدل فيما بينهم ، يساوي بينهم في العطية و المعاملة و النظرة و الإبتسامة .
و ليتق الله أولئك الذين يحرمون بعض المستحقين من الذرية في عطية أو وصية
فذلك حرام و جور و ظلم ، و الوصية به وصية ظلم و جنف ،
مخالفة للعدل و الحق لا يجوز نفاذها ، فتلك أفعالٌ شنيعة ، و ظلمٌ مهلك ،
تقوم به الخصومات ، و تثور به الأحقاد ، و تقع به المظالم ، و تتقطع به الأرحام .
عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن أباه
أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال :
(( إني نحلت أبني هذا غلامًا كان لي .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
أفعلت هذا بولدك كلهم ؟
قال : لا .
قال عليه الصلاة و السلام :
أتقوا الله و أعدلوا في أولادكم .
قال : فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة )) .
و في رواية :
(( إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تُشهدني على جور )) ؛
(( أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : بلى . قال : فلا إذن )) ،
و في رواية أخرى :
(( سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر )) .
و العدل في المعاملات الزوجية فرضٌ و حقٌ واجبٌ
في النفقة و الكسوة و المعاملة و العشرة كما يفعل الكرماء
من ذوي العقل و الدين و المروءة و الكمال . تطعمها مما تطعم ، و تكسوها مما تكتسي .
و في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
(( من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة و شقه ساقط ))
و في رواية
(( و شقه مائل )) .
أيها الإخوة ، حينما تتشرب النفوس العدل فيكون سجية لها
فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق و مكارم المروءات ، عدل في السلوك كله ،
وسط بين الإفراط و التفريط، جود و سخاء من غير سرف و لا تقتير،
و شجاعة و قوة من غير جبن و لا تهور ،
و حلم و أناة من غير غضب ماحق أو مهانة مردية .
و كل تعامل فَقَدَ العدل فهو ضرر و إضرار ، و فساد و إفساد
(( وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلاْرْضِ مُفْسِدِينَ ))
[الشعراء:183] .
و في ديننا أيها الإخوة ، مرتبة فوق العدل قد أمر الله بها مقترنة بالعدل .
مرتبة تأتي لتجمل حدة العدل الصارم و وجهه الجازم الحازم ،
إنها مرتبة الإحسان حين تدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقوقه
إيثارًا لود القلب و شفاء غل الصدور ، ليداوي جرحًا ، و يكسب فضلاً ،
و يرتفع عند ربه درجاتٍ عُلا .
ألا فاتقوا الله رحمكم الله ، و أعدلوا في أقوالكم و أفعالكم ،
و أدوا الحقوق إلى أصحابها ، و أتقوا النار و لو بشق تمرة .
ثم صلوا و سلموا على الرحمة المهداة و النعمة المسداة
نبيكم محمد رسول الله ، فقد أمركم بذلك ربكم فى عُلاه
فقال في محكم تنزيله و هو الصادق في قيله :
( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
[ الأحزاب : 56 ] .
اللهم صلَّ و سلم و بارك على عبدك و رسولك سيدنا و نبينا محمد ،
و على آله الطيبين الطاهرين ، و على أزواجه أمهاتنا أمهات المؤمنين ،
و أرض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين أبى بكر و عمر و عثمان و على
و العشرة المبشرين و على سائر الصحابة و التابعين
و من سار على دربهم إلى يوم الدين
و عنا معهم بعطفك و جودك و كرمك يا أرحم الراحمين
اللهم أعز الإسلام و المسلمين و ............ ثم باقى الدعاء
اللهم أستجب لنا إنك أنت السميع العليم و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم
اللهم أميـــــن
أنتهت