الحمد لله ، أبدع الكائنات بقدرته ، و سوى أمور الخلائق بحكمته :
 { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }
[الفرقان:2] ، 
و أشهد أن لا إله إلا الله تقدّس سبحانه و تنزه ، الحق كتابُه ، و العدل بابُه ، 
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }
 [الرعد:8] ، 
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدًا عبده و رسوله ،
 إمام المتقين و قائد الغرِّ المحجلين و صفي الخلق أجمعين ، 
صلوات ربي و سلامه عليه و على آله الطيبين الطاهرين ، 
و على أصحابه أولي الأحلام و النهى و أهل المكرمات الأولى و الدرجات العلى ،
 اللهم أرضَ عنهم أجمعين ، و عنا معهم بعفوك و كرمك يا أكرم الأكرمين .
أمــــا بعــــــد :
 فاتقوا الله معاشر المسلمين ، و أعلموا أن هذه الدنيا دار ممرّ ، 
و أن الآخرة هي دار القرار ،
(( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ))
[الزلزلة:7، 8] .
أيها الناس ، إن لبني آدم ولَعاً بالغاً و شغفاً ثائراً فيما يتعلق بالأمور الغيبية ،
 الماضي منها و اللاحق،
 و إنكار هذه الظاهرة ضربٌ من ضروب تجاهل الواقع و النأي عنه . 
غيرَ أن تراوُحَ هذه الظاهرة صعوداً و هبوطاً يُعدّ مرهوناً 
بمدى قرب الناس من مشكاة النبوة و الشِّرعة الحقة التي أحكمت هذا الباب 
و أخبر الله سبحانه و تعالى من خلالها بقوله :
(( عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ))
 [الجن:26، 27] .
 و لا غرو حينئذ إذا وجدنا هذه العصور المتأخرة مظِنةً للخلط و اللغط 
بالحديث عن الغيبيات و توقان النفوس الضعيفة إلى مكاشفتها ، 
ما بين مؤمن بالخرافة و راضٍ بالكهانة و آخرين سادرين في السجع و التخمين 
يقذفون بالغيب في كل حين ، مع أن آيات الله تُتلى عليهم بكرةً و عشياً 
و فيها قوله سبحانه و تعالى : 
(( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ))
[النمل:65] ، 
و تُقرأ عليهم سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم و فيها قوله :
 (( خمس لا يعلمهن إلا الله عز و جل : و قرأ
(( إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأَرْحَامِ 
وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ 
إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ))
 [ لقمان:34] ))
 رواه الترمذي .
ثم إن الناجين من هذه الظاهرة قد لا يسلمون من تطلُّع آخر يحملهم عليه الشغف
 و رَوم معرفة الحال اللاحقة ، و التي يظنون أن لها إرتباطا وثيقا باستقرار 
مستقبلهم من عدمه ، فاشرأبَّت نفوسهم إلى الوقوف على ذلك في مناماتهم 
من خلال ما يعتريهم من رؤى و أحلام ، و لذا فإن أحدنا قد يلاقي أخاً له أو صديقاً
 فيراه عبوسا متجهِّما أو فرحا مسرورا ، فيزول عنه العجب حينما يعلم 
أن سببَ هذا الفرح أو الحزن رؤيا مؤنسة أو أخرى مقلقة .
و هذا الأمر ـ عباد الله ـ ليس قاصراً على أفراد الناس و عامتهم فحسب ، 
بل يشاركهم فيه العظماء و الكبراء ، فكم أقضّت الرؤيا عظيما من مضجعه ،
 و كم بشَّرت الرؤيا أفرادا بمستقبلهم ، و كم شغلت شعباً كبيرا برمته ، 
و ما رؤيا يوسف عليه السلام بغائبة عنا ، و لا رؤيا ملك مصر بخافية علينا ،
 فقد أجتمع فيها تبشير و تحذير في آن واحد ،
 إذ بشارتها هي السَّعة عليهم في الرزق سبعَ سنين ، 
و نذارتها هي في الجدب و القحط سبعًا مثلها .
الرؤى ـ عباد الله ـ لها أهميتُها الكبرى في واقع الناس قبل الإسلام و بعد الإسلام ،
 لكنها من خلال نظرات المتعلمين و المثقفين قد تتفاوت تفاوتاً كثيراً 
في اختلاف المرجعية من قبل كل طائفة ، فقد أنكرها الفلاسفة ، 
و نسبوا جميع الرؤى إلى الأخلاط التي في الجسد ، 
فرأوا أنها هي التي تحدث انعكاسا مباشرا على نفس الرائي 
بقدر هيجان الأخلاط التي في جسده .
و لبعض علماء النفس مؤقفٌ سلبي تجاه هذه الرؤى أيضاً ، 
قاربوا فيه قول الفلاسفة فجعلوها خليطا من الأمزجة و الرواسب التي تكمُن في 
ذاكرة الإنسان فيهيّجها المنام ، حتى قصروا أمرَها في قالب مادي صِرف كما زعموا .
و أما شريعة الإسلام فإن علماءَها و أئمتَها قد ساروا على منهاج النبوة 
و وقفوا من الرؤى بما نصَّ عليه الكتاب و السنة ،
فذهبوا إلى أن الرؤيا المنامية الصالحة الصادقة إنما هي حق من عند الله ، 
فمنها المبشِّرة و منها المنذرة ، لما روى مالك في الموطأ و غيره 
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : 
(( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات )) ، 
قيل : و ما المبشرات ؟ 
قال : 
(( الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له ))
و التبشير هنا ـ عباد الله ـ  يحتمل التبشير بالخير و التبشير بالشر 
كما قال عز و جلّ عن الكفار : 
(( فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ))
 [آل عمران:21] .
و هذه الرؤيا ـ عباد الله ـ هي التي قال عنها الصادق المصدوق 
صلوات الله و سلامه عليه حيث قال : 
(( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، 
وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا ، 
و رؤيا المؤمن جزء من ستة و أربعين جزءاً من النبوة ))
 الحديث رواه البخاري و مسلم .
و بعدُ يرعاكم الله ، فلقد تكالبت همم كثير من الناس في هذا العصر 
بسبب الخواء الروحي الذي يتبعه الجزع و الخوف و نأيُ النفس عن تعلقها بالله 
و إيمانها بقضائه و قدره و بما كان و يكون و أن شيئا لن يحدث إلا بأمر الله و مشيئته ،
 فما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ، حتى لقد تعلَّقت نفوسهم بالرؤى و المنامات 
تعلُّقًا خالفوا فيه من تقدَّمهم في الزمن الأول من السلف الصالح ، ثم توسَّعوا فيها ،
 و في الحديث عنها و الأعتماد عليها ،
إلى أن أصبحت شغلَهم الشاغل عبر المجالس و المنتديات و المجامع 
بل و القنوات الفضائية ، إلى أن طغت على الفتاوى الشرعية ، 
فأصبح السؤال عن الرؤى أكثر بأضعافٍ عن السؤال في أمور الدين 
و ما يجب على العبد و ما لا يجب ،