عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله
لا يُلقي لها بالا يرفع الله بها درجات )
وتأمل قوله « لا يُلقي لها بالا »
أي أنها تخرج رغما عنه دون تفكير أو تدبر ودون أن يُمرَّها على قلبه ،
ومع ذلك تخرج منه طيبة نقية ، لأن كل وعاء بما فيه ينضح ، وحديقة
الورد لا يفوح منها غير شذى الورد ، إن حي القلب يتذوَّق كل كلمة بقلبه
قبل النطق بها فإن كانت حلوة علم أن طعمها في الآخرة سيكون أحلى
فأطلقها ، وإن كانت مُرَّة عرف أن طعمها في الآخرة أشد مرارة فسكت.
واسمع إلى طهارة لا تدانيها طهارة ، وقلب طهور كالماء الطهور طاهر
ومطهِّر لما حوله من القلوب
الذي قال عنه خارجة بن مصعب :
" صحبتُ عبدالله أربعا وعشرين سنة
فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة " .
فمهما استفزه الشيطان ببعض جنده وكافة حيله واجتمع عليه من أعوانه
ما اجتمع ؛ فلن يفلحوا إذا أبدا
فعن بكار بن محمد وابن قعنب قال :
" كان ابن عون لا يغضب فإذا أغضبه الرجل قال : بارك الله فيك " .
ومن ذلك أن جاءه غلام له فقال : فقأت عين الناقة!! قال : بارك الله فيك.
قال : قلت فقأت عينها فتقول بارك الله فيك!!
قال : أقول .. أنت حر لوجه الله.
أي تربية؟! وأي صفاء ونقاء؟! وأي مجاهدة أورثت هذا السمو الراقي
من سماحة النفس وطيب الكلم وروعة التقى حتى صار مضرب الأمثال ،
ومنتهى غاية الصالحين ، وأسمى أمنيات المخلصين ؛
" حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال : إني لأعرف رجلا
منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه ،
وليس ذاك أن يسكت رجلٌ لا يتكلم ، ولكن يتكلم فيسلم كما يسلم ابن عون " .
لكنه ليس وحده في الميدان بل ينافسه في الحلبة أطهار كُثر ، منهم
الفضيل الذي أراد أن يعطِّر ألسنتنا ويطيِّب كلامنا بطريقته الخاصة
" حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك!! قيل : وكيف ذلك يا أبا
علي؟! قال : إن صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال : عافاه الله ، وعدوك إذا
ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل والنهار ، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك ،
فلا ترضَ إذا ذُكِر بين يديك أن تقول : اللهم أهلكه .. لا ، بل ادعُ الله :
اللهم أصلحه .. اللهم راجع به ، ويكون الله معطيك أجر ما دعوت به
فإنه من قال لرجل : اللهم أهلكه ، فقد أعطى الشيطان سؤاله
لأن الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق " .
رحمة الله على أصحاب تلك القلوب ، وصدق فيها وصف
" إن من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة ؛ ربما كانت ناقصة
أو مخرومة ، أو مسَّ الزيت أطرافها فأفسدها ، ولكنها أثمن وأغلى
لأنها واحدة لا ثانية لها " .
ولماذا نذهب بعيدا وبين أيدينا سيد القدوات نبينا صلى الله عليه وسلم
الذي روى عنه جابر بن سمرة رضي الله عنه :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو مع صمته كان إذا تكلم لا يُخرِج غير الرحيق والعبير والدواء
والشفاء ، وبهذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( مثل المؤمن مثل النحلة ؛
لا تأكل إلا طيبا ولا تضع إلا طيبا )
" ووجه المشابهة بينهما : حذق النحل وفطنته ، وقلة أذاه ، وحقارته ،
ومنفعته ، وقنوعه ، وسعيه في الليل ، وتنزهه عن الأقذار ، وطيب أكله ،
وأنه لا يأكل من كسب غيره ، ونحوله ، وطاعته لأميره " .
إنه قطعة ذهب نقية ليس فيها شائبة واحدة ولا ذرة غريبة من غير الذهب
، فلا زيف ولا خبث ولا تلوُّن أو تغير بل ثبات وطهارة تماما ، وليس فيها
مصداق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمن :
( ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب ؛ إن نُفِخت عليها احمرت