فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا.
والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم.
وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين.
ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ { مَثَلٍ } في مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى،
ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك
عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز،
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ }
{ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ }
وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.
وأما الفرق الثاني بين الآيتين فإن المراد
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }
في آية النور- العموم، ويندرج في عمومه كل من كفر من الأمم السابقة،
والأمم اللاحقة إلى يوم يبعثون.
{ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ }
فالمراد بـهم الكفار من الأمم السابقة؛ ولهذا جاء ذكرهم مقيدًا
تمييزًا لهم من غيرهم. فأولئك مثل لهؤلاء،
وقد ورد ذكر بعضهم في سورة إبراهيم قبل هذه الآية على لسان موسى-
عليه السلام- وذلك في معرض خطابه لقومه،
يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم من الأمم المكذبة:
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالتينات
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
وبعد أن حكى الله تعالى عن الرسل- عليهم السلام-
اكتفاءهم في دفع شرور هؤلاء الكفار بالتوكل على ربهم،
والاعتماد على حفظه ورعايته، حكى سبحانه وتعالى
عن بعض المتمردين في الكفر أنهم بالغوا في السفاهة،
فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة؛
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ *
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ *
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
الذي انتهى إليه هؤلاء الكفار من الأمم الغابرة جاء التعقيب مثلاً،
يصوِّر الله تعالى فيه أعمالهم على طريقة القرآن المبدعة
بصورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف،
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ }
وأعمال من جاء من بعدهم من الذين كفروا بربهم في هذا التمثيل العجيب؛
إذ بأولئك الكفار الغابرين تضرَب الأمثال لكل من ماثلهم
ممَّنْ جاء بعدهم من الكفار اللاحقين، في كفرهم بالله سبحانه وبآياته،
وإنكارهم للبعث، ومحاربتهم لرسله- عليهم السلام- وصدهم عن سبيله،
ولكل مَنْ كانت أعماله مماثلة لأعمالهم من غير الكافرين بربهم.
ومن المعلوم أن الكفار المتأخرين
قد سلكوا في الكفر والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، ومنهم كفار مكة،
الذين أخبر الله تعالى في قوله مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
وكما حكى الله تعالى عن الفئة الضالة من الأمم السابقة قولهم لرسلهم:
{ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }
كذلك أخبر سبحانه عن كفار مكة،
فقال تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا
وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً }
ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك سنته في رسله وعباده،
{ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا }
وتقتضي سنة الله تعالى في عباده أن يحكم على الفرع بحكم الأصل،
فيما تكون فيه المماثلة. فإذا كان الأصل محكومًا عليه بالهلاك،
وعلى أعماله بالفساد، فكذلك الفرع.
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ }
{ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ }
عبارة تجمع الوعيد والتهديد،
والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله.
والمعنى المراد: مضت سنة الله تعالى فيمن سلف من الكافرين بالهلاك،
فيصيب الآخرين مثل ما أصاب الأولين.
وكما يطلق لفظ { المَثَل }على الفرع، كذلك يطلق على الأصل،
ومن ذلك قوله تعالى في حق كفار مكة:
{ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ }
أي: مضى حالهم، الذي كانوا عليه من الكفر والتكذيب والإهلاك،
وخلفه حال مماثل له؛ هو حال كفار مكة، وغيرهم.
والأول أصل، والثاني فرع، والعلة الجامعة بسنهما : الكفر والتكذيب،
والحكم : الهلاك . والمعنى : أن كفار مكة سلكوا في الكفر،
والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم،
فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم.