كلِمةٌ عظيمة في موقفٍ عصيب لا يقوَى عليه إلا صاحبُ الإيمان ،
فيصبِر عليه السلام رغمَ الوَعدِ و الوعيد و السّجنِ و التهديدِ ،
و يتجاوَزُ المحنةَ ، فآتاه الله الملكَ و علَّمه من تأويل الأحاديث ،
و أعظم من ذلك أنّه من عبادِ الله المخلَصين .
و فيه من العِبَر أنّ العِفَّةَ عاقبتُها الغناءُ و الاستغناء و نورُ القلب و البصيرةُ
و الضياء و العِلمُ و الفراسة و التّوفيق ؛ ذلك أنَّ العِفّةَ في حقيقتها مراقبةُ الله تعالى
و خوفُه ، و مَن راقب الله في خواطِرِه عصَمَه في حركاتِ جوارحه و أسبغ عليه رضاه ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ >
[ البينة: 8 ] ،
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
[ الرحمن: 46 ] ،
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى >فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى <>
[ النازعات:40، 41 ] .
أيّها المسلمون ،
و لإهتِمامِ الإسلام بهذا الجانِبِ العظيم و لإمتداحِ الله المؤمناتِ بقوله :
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ
[ النساء: 34 ]
فقد حمى الله تعالى أعراضَ المؤمنات ،
و صانَ سُمعَتَهن أشدَّ صيانةٍ لكرامتِهن عند الله و حرمةِ جنابِهنّ
فقال سبحانه :
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ >
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ >
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ >
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ
أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ >
[ النور:23-26 ] .
بل إنّ مَن قدح في عِرض العفيفة فقد استوجَبَ الحدَّ
و سقوطَ العدالة و استحقَّ صِفةَ الفِسق ،
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ >
[ النور:4 ] .
ثمّ تأمّلوا ـ رعاكم الله ـ كيف وصَف العفيفاتِ بالغافلات ،
و هو وصفٌ لطيفٌ محمود يصوِّر المجتَمَع البريء و البيتَ الطاهر
الذي تشِبّ فيه فتياتُه بعيداتٍ عن الدنايا و الآثام ،
يصوِّرُهنّ غافلاتٍ عن لوثَاتِ الطِّباع السّافلة ، غائباتٍ عن المعاني الرّديئة ،
ثمّ تأمَّل كيف تتعاوَن الأقلام السّاقِطة و الأفلام الهابِطة لتمزِّقَ حجابَ الغفلةِ هذا ،
و يتسابقون و يتنافَسون في هَتكِ الأستار و فتحِ عيونِ الصّغار
على ما يستحِي منه الكبار ،
و صدق الله العظيم إذ يقول :
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا >
[ النساء: 27 ] .
أيها الأحبة في الله :
إنَّ العالَم المنفَتِح على الجنسِ المتحلِّلَ منَ الفضيلةِ يئِنّ اليومَ
تحت وطأةِ الأمراضِ الوبائية و يجأرُ من التشتُّت الاجتماعيّ
و التفكُّك الأسريّ و التحلّل الأخلاقيّ ،
كما تشكو نساؤه و أطفالُه آلافَ الحالات من الاغتصابِ و تجارةِ الرذيلة ،
و التي نافَسَت تِجارةَ الأسلحة و المخدِّرات ، و يسمّونها تجارةَ الرقيقِ الأبيض ،
فأين الحرّيّة و الأمان ؟!
و أين الطّمأنينةُ و الإستقرار
في هذه الفوضَى العارِمة في إختلالِ الأخلاق و القيَم ؟!
إنَّ الحريّةَ الحقيقيّة التي بناهَا الإسلام هي عندَما يحِسّ أفرادُ المجتمع
بالأمنِ في حياتهم و أعراضِهم ، فيتحرَّكون بحرّيّةٍ و أمن ،
و تنتشِر الثِّقة و الطمأنينة و حُسنُ الظنّ ، و يتفرَّغ الناس لمعاشِهِم
و ما يصلِح دينَهم و دنياهم ، و ذلك حين يتربَّى المجتمعُ رجالاً و نساء
و ينشؤونَ على مظاهِرِ العِفّة و الحِشمة و الورَع و لزومِ أمر الله تعالى ،
فلا شكَّ و لا رِيبةَ ، و لا خيانةَ و لا خَوف ، إنه الأمنُ و الطمأنينةُ و الحريّة ،
و لذلك في صدرِ الإسلامِ الأوَّل لم يمنَع ذلك صلاةَ المرأة في المسجِد
و مشاركتَها الجيشَ في المعركة و طلَبَها للعِلم و مداواةَ الجَرحى و طلَبَ الرِّزق ،
و لم يكُن في أحكامِ الشَّرع ما يمنعُها مصلحةً لها أو لغَيرها ،
بل كلُّه حِفظٌ و صيانة كما قال تعالى :
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ <>
[ الأحزاب: 59 ] .
و إذا تحرَّكتِ المرأة الطاهرةُ و الرجلُ الطاهر في البِيئة الطاهرة
وفقَ ما رسمَه الله من أحكامٍ بعيدًا عن الشّبُهات و الملوِّثات فلا سبيلَ لجرثومةٍ أن تنفذَ .
أيّها المسلمون ،
و حيثَّ إن أعظمَ أبوابِ الشّرّ و أوّلَ مدخلٍ للشيطان هو إطلاقُ البَصَر
و الإختلاط لذا صارت أحكامُ الحجابِ و القَرار في البيوت
و الأمر بغَضِّ البصر للرجال و النساء ،
قال الحقّ سبحانه :
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ >
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ >
[ النور: 30، 31 ] ،
بل حتى في الحديثِ العابِر بين الرّجل و المرأة الأجنبيّة عنه :
إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا >
[ الأحزاب :32 ] .
إنّه سدٌّ لمنافِذِ الشيطان كما في قولِ الله سبحانه :
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ >
[ الأحزاب:53 ] .
أيّها المسلمون،
إنَّ الحياةَ الطاهِرة تحتاج إلى عزائِمِ الأخيارِ ،
و أمّا عيشةُ الرذيلة فطريقُها سهلُ الانحدار ،
و البيوتُ التي تظِلّها العفّةُ و الحِشمة تورِق بالعزِّ و الكرامة ،
أمّا البيوتُ التي يملؤهَا الفحشاء و المنكرُ فلن تنبُتَ إلاّ بالذّلِّ و المهانة ،
و إذا أمَر الله تعالى بوقايةِ النفس و الأهل من النارِ التي وقودُها الناس و الحجارة
و أخبر النبيُّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم
أنَّ كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيّته فإنَّ المسلِمَ يجب أن تكونَ له وقفةٌ للهِ
لتجنيبِ نفسِه و من يَليه ما جلبته وسائلُ الاتِّصال و البَثِّ
مِن ذبحٍ للفضيلة و نشرٍ للرذيلة و إماتةٍ للغيرة ،
و كيف يستسيغُ مسلمٌ هذا الغثاءَ المدمِّر ؟! أين الحياء ؟! أين المروءةُ ؟!
أين الحِفظُ و الصِّيانة مِن بيوتٍ هيَّأت لناشِئَتها أجواءَ الفتنة
و جلَبت لها محرِّضاتِ المنكَر ؛ تجرُّها إلى مستنقَعات الفُحش جرًّا
و تَدُعُّها إلى الخطيئةِ دَعًّا ؟!
و مع أنَّ شهوةَ الجِنس كشهوةِ الطّعام قد تمتلِئ المعِدة فتفتُر وقتًا عن طلَبها
إلاّ أنَّ الذين يحِبّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لم يَفتروا ،
بل ملَؤوا الفضاءَ بكلِّ أنواع المثيراتِ و المغرِيات ،
و تفنَّنوا في إثارةِ الشّهَوات و إيقادِ لهيبِ الغرائزِ في سُعارٍ أذهل الشيطان .
عباد الله :
إذا طغتِ الشهواتُ و اختلطَتِ النيات، فسدَتِ الأوضاع و اضطَرَبت الأحوال
و حقَّ العذاب ، و إن تُرِك الحبلُ على الغارِب ، يعيش الناسُ بشَهَواتهم
و يعبَثون بأخلاقِهم متجاوِزين حدودَ الله بلا وازعٍ و لا ضابطٍ و بلا رادِعِ و لا زاجر ،
فإن وعد الله حق ، و سنة الله لا تحابي أحداً ،
فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ
[ هود: 116 ] .
و مع كل ذلك التحذير ، فإنَّ التحصين من الداخلِ و التربيةَ الذاتية
و زرعَ المراقبةِ لله في السّرِّ و العلَن مسؤولية الجميع ،
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ >
[ هود : 117 ] .
بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم ، و نفعنا بسنة سيد المرسلين ،
أقول قولي هذا ،
و أستغفر الله تعالى لي و لكم و لسائر المسلمين و المسلمات من كلّ ذنب ،