{ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تُذَكَّر بما أنزل الله ،
وتُنَاطَق بالحكمة ، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك فإنه سبب لقسوة
إنه ليس عتاباً فقط بل تحذير ألا يقع المؤمن في التقاعس عن
الاستجابة لله ورسوله ، وفي الآية بيان أن ما يحصل من قسوة
القلوب ، وعدم استجابتها لعلام الغيوب ؛ هو الفسوق والتمرد عن
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم ؛ واستبطاء للاستجابة
الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله ؛
فبعث فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوها إلى الإيمان
بربها ، ونزّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور؛
وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصّر ويحذّر .
عتاب فيه الود ، وفيه الحض ، وفيه الاستجاشة إلى الشعور
بجلال الله ، والخشوع لذكره ، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق
بجلال الحق من الروعة والخشية ، والطاعة والاستسلام ،
مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ
والتقاعس عن الاستجابة ، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين
يمتد بها الزمن بدون جلاء ، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين
حين تغفل عن ذكر الله ، وحين لا تخشع للحق :
{ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .
إن هذا القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان ، وهو يشف
ويشرق فيفيض بالنور ، ويرف كالشعاع ؛ فإذا طال عليه الأمد بلا
تذكير ولا تذكر تبلد وقساً ، وانطمست إشراقته ، وأظلم وأعتم ،
فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع ، ولا بد من الطرق
عليه حتى يرق ويشف ؛ ولا بد من اليقظة الدائمة
كي لا يصيبه التبلد والقساوة .
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد ، وقسا وتبلد ، فإنه يمكن أن تدب
فيه الحياة ، وأن يشرق فيه النور ، وأن يخشع لذكر الله ،
فالله يحيي الأرض بعد موتها ، فتنبض بالحياة ، وتزخر بالنبت
والزهر ، وتمنح الأكل والثمار ، كذلك القلوب حين يشاء الله .
نعم لا يئس ما مدام ماء الحياة جارٍ ، وما دام كتاب الله موجود
تستشفي به القلوب ، وتحيا به الأفئدة ، فالأرض الميتة التي قد يأس
منها صاحبها يحيها الله - عز وجل - وهي جماد ،
ويبعث الحياة فيها بالغيث المبارك الذي ينزله الله - تعالى –
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ }
يرسل الله - جل جلاله - الماء إلى الأرض اليابسة فتحيا بعد موتها ،
وهذا المثل جاء في القرآن بعد ذكر قسوة القلوب ليذهب اليأس من
القلوب حتى تلجأ إلى الله - تعالى - ،
} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ {
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
يقول الإمام الشوكاني - رحمه الله -:
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها ،
ويلين القلوب بعد قسوتها ،
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ }
التي من جملتها هذه الآيات ؛
{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك .
أسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح فساد قلوبنا ، وأن يرزقنا الخشوع ،
وأن يجعلنا من عباده الأتقياء الأنقياء الأخفياء ،
وصلي اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .