أن نسبة المسيح إلى الله تعالى لا تزيد على نسبة آدم                    إليه شيئًا،
                     في كونه خلْقًا غيرَ معتاد للمحاجِّين فيه                    .
                     وإنما ذكر تعالى هذا القيد الذي قيَّد به مثل عيسى                    ؛
                     لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبًا للمسيح نسبة خاصة عند                    الله ،
                     وهي البُنُوَّة والإلهيّة ، فكان لابد من ذكر هذا                    القيد                    .
                                         فإن قيل: لماذا خلق الله تعالى عيسى من أنثى بلا ذكر خلافًا                    للمعتاد ؟
                     فالجواب عن ذلك: أن الله جل جلاله أراد أن يظهر قدرته                    لخلقه،
                     وأن يبين عموم هذه القدرة في خلق النوع البشري على                    الأقسام الممكنة،
                     فخلق آدم من غير ذكر و لا أنثى ، وخلق زوجته حواء من                    ذكر بلا أنثى ؛
                                                                                 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي                    خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا                    }
                                                             ، و خلق عيسى– عليه السلام - من أنثى بلا                    ذكر،
                     وخلق سائر الخلق من ذكر و أنثى                    ؛
                                                                                 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن                    ذَكَرٍ وَأُنثَى }
                                                                                                                                             { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ                    فَيَكُونُ }
                                                             فهو تفصيلٌ لما أُجْمِلَ في                    المثل،
                     وتفسيرٌ لما أُبْهِمَ فيه، ببيان وَجْهِ                    الشَّبَه.
                     والضمير في ﴿ خَلَقَهُ﴾ لآدم ، لا لعيسى                    ؛
                     إذ قد عَلِمَ الكلُّ أن عيسى لم يُخلَق من                    تراب،
                     فدل ذلك على أن محل  التشبيه
                                                                                 { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }                    .
                                                             و الخَلْقُ في اللغة أصلُه : التقديرُ المستقيمُ                    .
                     و يستعمل في إبداع الشيء من غير أصل و لا احتذاء                    ؛
                                                                                 { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ                    }
                                                             و يستعمل في إيجاد الشيء من الشيء                    ؛
                                                                                 { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ                    إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }
                                                                                                     { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا                    زَوْجَهَا }
                                                                                                                                             { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }
                                                             و لم يقل :( خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ ) أو ( من صَلْصَالٍ                    كَالْفَخَّارِ )
                                                                                 { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ                    بَشَرًا مِن طِينٍ }
                                                                                                     { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي                    خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ                    }
                                                                                 إنما عُدِل عن ذكر الطين الذي هو مجموع الماء و                    التراب ،
                     و الصلصال الذي هو الطين اليابس ، إلى ذكر مجرَّد                    التراب ،
                     لمعنى لطيف ؛ و ذلك أنه أدنى العنصرين ، و أكثفهما                    .
                     فلما كان المقصود محاجَّة من ادَّعى في المسيح - عليه                    السلام –
                     البُنُوَّةَ والإلهية ، مثَّله بآدم ، ثم أتى بما                    يصَغِّر من أمر خلقه
                     عند من اعترف بخلقه من غير أب وأم                    ؛
                     فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من                    غيره من العناصر ؛
                                                                                 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ                    مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ                    }
                                                             و نظير الآية قوله تعالى :
                                         { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء                    }