يقول الإمام أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله :
" فنعوذ بالله من عيونٍ شاخصة غير بصيرة ،
و قلوب ناظرةٍ غير خبيرة ".
إخوة الإيمان
و من الحثّ اللّطيف على السفر النافع المفيد قولُ الثعالبي رحمه الله :
" من فضائل السفر أنّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار و بدائع الأقطار
و محاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى , و يدعوه شكرًا على نعمه " .
و هل بلغ الصحابة الأجلاء و السلف الصالح ما بلغوا مِن ذُرى القمَم و قصَب السبق
بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث و تحصيل العلوم و المعارف .
أيها المصطافون ، أيها المسافرون
يا مَن عزمتم على جَوْب الأمصار و الأقطار و ركوب الأجواء و البحار
و اقتحام الفيافي و القفار و تحدي الشدائد و الأخطار , تلبّثوا مليًّا ،
و تريّثوا فيما أنتم بسبيله ،
و ليكن في نواياكم أسوتكم و نبيكم صلى الله عليه و سلم ،
حيث ارتحل من مكّة إلى المدينة ، حاملاً النورَ و الضياء و الهدى و الإصلاح ،
و كذلك صحابته الكرامُ في أثره ،
حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجلَّ السفراء ،
و سار في ركابهم جِلّة العلماء ، فشقّوا الأرضَ شقًّا ، و ذرعوها سفرًا و تسيارًا ،
طلبًا للعلم و الإفادة و الصلاح و السعادة ، و تصعّدًا في مراقي الطّهر و النّبل ،
كلّ ذلك على كثرة المخاوف و شُحّ الموارد و خشونة المراكب و قلّة المؤانس ،
فهلاّ اعتبرنا بهم و شكرنا الباري جلّ في علاه على نعمِه السوابغ .
ألا فاعلموا عباد الله
أن السفر في هذه الآونة ، يختلف عن السفر في قرون مضت ،
فقد مهدت الطرق ، و جرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة ،
فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا أو تقلّهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا ،
أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا ، كما أن الأزمنة قد تقاصرت ،
فما كان يتم في شهور بشق الأنفس ، أضحى يتم في أيام قصيرة بل ساعات قليلة ،
و بجهود محدودة بل و ربما عطس رجل في المشرق فشمته آخر في المغرب ،
و هذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه و سلم من أن :
تقارب الزمان من علامات الساعة كما عند البخاري في صحيحه .
و مع هذه الراحة الميسرة فإن الأخطار المبثوثة هنا و هناك لم تنعدم ،
ففي الجو يركب المرء طائرة يمتطي بها صهوة الهواء ، معلقا بين الأرض و السماء ،
بين مساومة الموت و مداعبة الهلاك فوق صفيحة مائجة ،
قد يكون مصيره معلقا بأمر الله في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك ،
لاسمح الله .
مما يؤكد الاحتماء بالله و ارتقاب لطفه المترجم بلزوم آداب السفر ،
و البعد عن معصية الله في هوائه بين سمائه و أرضه ، و المستلزمة وجوبا ،
إقصاء المنكرات من الطائرات ، و التزام الملاحين و الملاحات بالحشمة و العفاف
و البعد عما يثير اللحظ أو يستدعي إرسال الطرف .
و إن تعجب أيها المسلم
فعجب ما يفعله مشركو زمان النبي صلى الله عليه و سلم
من اللجوء إلى الله في الضراء
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
[ العنكبوت : 65 ] .
و بعض عصاة زماننا سراؤهم و ضراؤهم على حد سواء ، فقبح الله أقواما ؛
مشركو زمان النبي صلى الله عليه و سلم أعلم بلا إله إلا الله منهم .
أيها المسلمون
إن التقارب في الزمان و المكان بما هيأ الله من أسباب السرعة ،
لهو نعمة عظيمة و رحمة جُلَّى ، تستوجبان الشكر للخالق و الفرار إليه ،
في مقابل التذكر ، فيما فعله الله ـ جل و علا ـ بقوم سبأ
الذين كانوا في نعمة و غبطة ، من تواصل القرى ،
بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد و لا ماء
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـٰهِرَةً
وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ }
[ سبأ : 18 ] .
و لكن لما بطروا نعمة الله و مالت نفوسهم إلى ضد حالهم
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ }
[ سبأ : 19 ] .
ففرق الله شملهم بعد الاجتماع ، و باعد بينهم بعد التقارب ،
حتى صاروا مضرب المثل ؛
و لهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : تفرقوا أيدي سبأ .
و بعدُ عباد الله
فإن من أعظم فوائد السفر ، و أكثرها تعلقا بالله ، معرفةَ عظمته و قدرته ،
بالنظر إلى ما ابتدعه ـ جل و علا ـ ، خلقا جميلا عجيبا ،
من حيوان و نبات ، و ساكن و ذي حركات ،
و ماذرأ فيه من مختلف الصور التي أسكنها أخاديد الأرض ،
و خروق فجاجها ، و رواسي أعلامها ، من أوتاد و وهاد ،
فصار فيها جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود ،
و من ذوات أجنحة مختلفة ، و هيئات متباينة
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ }
[ النازعات : 26 ] .
كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة ،
و نسقها على اختلافها بلطيف قدرته و دقيق صنعه ،
فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ،
و منها مغموس في لون صبغ ، قد طوِّق بخلاف ما صبغ به
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلاْنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهُ
كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء }
[ فاطر : 28 ] .
فسبحان من أقام من شواهد البينات على عظمته و قدرته !
فانقادت له العقول معترفة به و مسلمة له ،
فبان لها أن فاطر النملة هو فاطر النخلة .
إخوة الإيمان
و ثمة أمر يغفل عنه كثير من المسافرين و هم في غمرة الاستعداد و التأهب
لخوض غمار السفر و متاعبه ، إنه التأهب و الاستعداد للسفر للدار الآخرة ،
ذلكم السفر الذي ينساه كثير من الخلق ،
و يغفل عنه فئام ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم .
إنه السفر الذي سوف يخوضه كل واحد منا وحيداً فريداً ،
ليس له من الزاد إلا ماقدمه من عمل صالح في هذه الحياة الدنيا .
فحري بكل من حزم حقيبته لسفر من أسفار الدنيا أن يتذكر يوم سفره إلى الآخرة ،
يوم قدومه على ربه و مولاه ، لا يحمل معه إلا صالح عمله ، و تقواه لربه .
فأعدوا العدة لذلكم رحمكم الله و تزودوا فإن خير الزاد التقوى ،
و اتقوا الله يا أولي الألباب .
بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم ،
و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم .
قد قلت ما قلت إن صوابا فمن الله ، و إن خطأ فمن نفسي و الشيطان
و أستغفروا الله إن الله غفور رحيم .