أيّها المسلمون
مَن تأمَّل مقاصدَ الشّرع في العبادات و المعاملات و الآدابِ و الأخلاق
و الأوامِر و النّواهي تبيّن له مقصدٌ كبير و غاية عُظمى ،
تلكم هي جمعُ الكلِمة و غرسُ المحبّة و زرعُ الأُلفة و نشر المودّة بين أفرادِ الأمّة ،
و الحثّ على التناصُر و التعاون و البعدُ عن أسباب العداوة و البغضاء
و ما يحمِل على الكراهة و الشّحناء و ما يثير الأحقادَ و ضَغائن القلوب
و التحذيرُ الشديد مِن الطّعن في المسلمين وعيبِهم و همزِهم و لمزهِم و إبداء عوراتِهم
و تتبُّع عثَراتِهم و التّشهير بهم و إساءةِ الظنِّ بهم
و الاتهام ببدعةٍ أو كفر أو فسوقٍ أو نفاق أو ظلمٍ أو جهل.
جمعُ الكلمَة ـ أيّها المسلمون ـ سبيلهُ إقامةُ شرع الله و إظهار شعارِ الإسلام و شعائره
و التعاون على البرّ والتقوى و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر و النصحُ المشفق لكلّ مسلم .
و لا تكون قوّة أهل الإسلام و نفاذ كلمتهم و شدّةُ منَعَتهم إلاّ بتناصرهم و تآزُرهم .
أيّها الإخوة في الله ، و إنَّ متغيِّراتِ العصرِ و مضلاّت الفتَن و تكالبَ الأعداء و تداعيَ الأكَلَة
تدعو المسلم الغيورَ على أمّتِه النّاصح لإخوانه لأن يربَأ بنفسه أن يكونَ مِعوَلاً في يدِ أعدائه
مِن حيث يدري أو لا يدري ، يقعُ في إخوانه المسلمين ، فيَشتم هذا ، و يشهِّر بهذا ،
و يتنقّصُ هذا ، ويحتقِر هذا ، و يكفِّر و يبدِّع ، بل قد يسلَم منه الكافرُ و المشرك ،
و لا يسلم منه أخوه المسلم .
عبادَ الله ، و هذه ـ حفظكم الله ـ
وقفةٌ عِند فتنة خطيرةٍ ، بدأت تُطِلّ برأسها في بعض المجتمعات و الفئات ،
ينبغي أن يتنادَى أهلُ العِلم و الإيمان و الفضل والصّلاح و الدّين و الغيرة إلى
مقاومتِها و التّحذير منها. كما حذّر منها السّلفُ يرحمهم الله ، و بيّنوا خطرَها وعوارها،
إنّها مسألة تكفير المسلمِ لأخيه المسلم و المجازفةُ بالحكم على المسلم بخروجه من ملّةِ الإسلام
و عدِّه مِن أهلِ الكفرِ و الشّرك و القطعُ و الجزم بأنّه خالد مخلّدٌ في النّار عياذًا بالله ،
لا حولَ و لا قوّة إلا بالله العليّ العظيم .
مسألةُ التّكفير مِن المسائل الكبار و القضايا العِظام ، لها آثارُها العظيمة ،
فلا يحلّ لمسلم أن يقدِم عليها إلا ببرهانٍ عنده من الله و دليلٍ هو في دلالته
أوضحُ من الشّمس في رابعة النّهار.
لقد نبّه أهلُ العلم سلفًا و خلفًا إلى خطورةِ هذه المسألة و عِظم شأنِها و ما يترتّب عليها
من آثارٍ وتبِعات في الدّنيا و في الآخرة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله :
" اعلم أنّ مسائل التّكفير و التّفسيق هي من مسائلِ الأسماء و الأحكام التي يتعلّق بها
الوعدُ و الوعيد في الدّار الآخرة ، و يتعلّق بها الموالاة و المعاداة و القتل و العصمةُ
و غير ذلك في دار الدّنيا ، فإنّ الله سبحانه أوجَب الجنّة للمؤمنين ،
و حرّم الجنّة على الكافرين ، و هذه الأحكام الكلّية في كلّ وقت و في كلّ مكان ".
و قال ابن الوزير: " وقد عوقِبت الخوارجُ أشدَّ العقوبةِ و ذُمَّت أقبحَ الذمّ على تكفيرهم
لعصاة المسلمين ، فلا يأمن المكفِّر أن يقعَ في مثل ذنبهم ،
و هذا خطرٌ في الدّين جليل ، فينبغي شدّة الاحتراز فيه ".
و يقول الإمام الشوكانيّ : " اعلَم أنّ الحكمَ على الرّجل المسلم بخروجه من دين الإسلام
و دخوله في الكفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يقومَ عليه إلاّ ببرهان
أوضحَ من الشّمس في رابعة النّهار ، فإنّه قد ثبتَ في الأحاديث الصّحيحة المرويّة
عن طريق جماعةٍ من الصّحابة رضوان الله عليهم
عن رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلّم أنّه قال :
(( من قال لأخيه: يا كافر ، فقد باء بها أحدُهما )) ،
و في لفظ :
(( من دعا رجلاً بالكفر أو قال : عدوّ الله و ليس كذلك إلا حارَ عليه )) ،
أي : رجَع عليه ، و في حديث آخر :
(( من رمَى مؤمِنًا ، بكفرٍ فهو كقتلِه )) " .
أيّها المسلمون ، الكفرُ حكمٌ شرعيّ ، و الكافر هو من كفّره الله تعالى
و رسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلّم ،
فليس الكفرُ حقًّا لأحدٍ من النّاس ، بل هو حقّ لله وحدَه ،
و يوَضّح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله بقوله :
" فلهذا كان أهلُ العلم و السنّة لا يكفّرون من خالفَهم و إن كان ذلك المخالف يكفِّرهم ؛
لأنّ الكفرَ حكم شرعيّ ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثله ، كمَن كذب عليك ليس لك أن تكذِب عليه ؛
لأنّ الكذبَ حرام لحقّ الله تعالى ، و كذلك التكفيرُ حقّ لله ، فلا يكفَّر إلاّ من كفّره الله و رسوله " ،
إذا كان الأمرُ كذلك ـ أيّها المسلمون ـ فينبغي أن يُعلمَ أنّ الإيمانَ و الكفرَ محلُّها القلب ،
و لا يطّلع على ما في القلوب إلا الله ، و في التنزيل الكريم من رب العالمين سبحانه و تعالى :
( مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ
وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
[ النحل : 106 ] .
فالكافِر ـ عياذًا بالله ـ هو من شرَح صدرًا بالكفر ، فلا بدّ من شرحِ الصّدر بالكفر
و طمأنينة القلب به و سكون النّفس إليه ، فلا اعتبارَ بما يقع من طوارقِ عقائدِ الشرّ
لا سيّما مع الجهل و عدم الجزم بمخالفتها لطريق الإسلام ،
و لا اعتبارَ بصدور مكفِّرٍ لم يُرد به فاعلُه الخروجَ مِن الإسلام إلى ملّة الكفرِ ،
و لا اعتبار بلفظٍ تلفّظ بِه المسلم يدلّ على الكفر و هو لا يعتقِد معناه ،
و إن كانت هذه كلّها أمورًا منكرةً محرّمة ممنوعة يجِب الإنكارُ على صاحبِها
و التحذير منها و بيان الحقّ فيها ، و لكنّها لا توجب الحكمَ و الجزم بكفر صاحبها .
و بعد : أيّها المسلمون ، ففي مسألة التّكفير زلَّت أقدامٌ ما كان لها أن تزلّ ،
و ضلّت أفهام ما كان لها أن تضلّ ، و خاضت ألسنةٌ و أقلام بغير علمٍ و لا برهان ،
فينبغي الحذرُ من ذلك كلِّه ، و السّلامة لا يعدِلها شيء ،
كما ينبغي الحرصُ على جمعِ كلمة المسلمين ، فحين تحصل الفرقة و النفرةُ
و شتات الكلمةِ يستبدّ كلُّ ذي رأي برأيه ، و يدّعي كلٌّ الكمالَ لنفسه ،
و يعجِب كلَّ سالكٍ مسلكُه ، و يحصُر الحقّ و الغَيرة في نفسه و فئتِه ، فيحتقرُ إخوانَه ،
و يزدري مسلكَهم ، ويثير الغبارَ من حولِهم ، و حينئذٍ تتنافر القلوب ، و يقع التهاجرُ و التقاطع ،
و تضعف الدّعوة إلى الله ، و تقلّ منفعةُ العِلم ، و لا يقع القبول و التّوجيه و الإرشاد ،
و يتغلغل الأعداء ، و لعمرو الله إنّ هذه لهي بُغية الأعداء ، فلا حولَ و لا قوّة إلا بالله .
أيّها المسلمون ، عندما تتقرَّر خطورةُ التّكفير و عِظمُ شأنه و شدّةُ القول فيه فإنّ ذلك
لا يعني التساهلَ و تمييعَ القضايا و إغلاقَ بابِ الردّة عياذًا بالله و الحكمَ بالإيمان
لمن ظهَر كفرُه بالدليل و البرهان و انشرَح صدرُه بالكفر و الطّغيان ، و لكن المقصود
بيانُ خطرِ المسألة و الحذر من الجرأةِ في اقتحام أبوابِها حتّى قال بعض أهل العلم :
إنّك لو متَّ و لم تقُلْ في فِرعونَ شيئًا لم يؤاخِذك الله بذلك يومَ القيامة .
فالتكفير ـ يرحمكم الله ـ عندَ أهلِ العلم خطير ، له شروطٌ و موانع بيّنها أهل العلم ،
فقد يكون الرّجل لم تبلُغه النصوصُ الموجبة لمعرفة الحقّ ، و قد تكون عنده و لكنّها
لم تثبُت عنده أو لم يتمكّن من فهمها ، و قد تعرضُ له شبهاتٌ يعذُره الله بها ،
فمَن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلبِ الحقّ و أخطأ فإنّ الله يغفِر له خطأه كائنًا من كان ،
سواء من المسائل النظريّة أو العمليّة ،
هذا الذي عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه و سلم وجماهير أئمّة الإسلام ،
و أهلُ العلم قد يحكمون على الأمر بأنّه كفر ، و لا يحكمون بأنّ كلَّ من وقع منه
خارجٌ من الملّة ؛ لأنّ شرطَ ذلك أن لا يكونَ له عذرٌ مقبول .
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، و احفَظوا ألسنتَكم ، و لا يستجرِيَنّكم الشيطان ،
و اجتمِعوا على الحقّ ،
( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ )
[ المائدة : 2 ] .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا
فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )
[النساء:94].