ذهول الحقائق
ذهـول الحقـائق ابراهيم السكران بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله وبعد،، في يوم الأربعاء الثاني من هذا الشهر قدم إلى الرياض أحد أقاربي يكنى بأبي عبدالكريم، وهو في منتصف الأربعينات من عمره، وكانت بيني وبينه مودة حميمية خاصة، وإلى هذه الساعة مارأيت مثله في سلامة القلب للناس والإحسان للمستضعفين كالعمال والجاليات والأطفال ونحوهم، وله علي خصوصاً فضل خاص لا أنساه ما حييت، وما إن وصل لمنزلي إلا وكانت آثار الإرهاق بادية عليه، فطلب فراشاً ونام في المجلس ساعةً، ولما حان موعد الغداء أيقظته وتناولنا الغداء سوياً، ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث فأثار مسألة (صلاة الجماعة للمسافر)، وطلب مني كتباً عن هذا الموضوع، فصعدت لمكتبتي وأتيت بجزء الصلاة من فتاوى ابن باز التي فرِّغت من نور على الدرب، وفتاوى ابن عثيمين التي جمعها الشيخ فهد السليمان، قرأنا المسألة التي أرادها، ثم استأذن وغادر.. هذا كان يوم الأربعاء، وفي يوم الجمعة الذي يليه اتصلت بي والدتي تقدم لي خبراً على التدريج، فقالت لي: ابوعبدالكريم، ياوليدي، الحمدلله على قدره، جاه حادث، ثم سكتت.. سألتها: وفي أي مستشفى هو الآن؟ فقالت لي: توفي الله يرحمه.. صمتُّ برهةً، وودعت الوالدة وأغلقت الهاتف، كل الذي دار في خلدي تلك الساعة أن الوالدة أتاها الخبر بشكل خاطئ، وأن أباعبدالكريم قطعاً لم يمت، مكثت قليلاً ثم عاودت الاتصال، وسألت والدتي: أنت متأكدة من الخبر؟ قالت: هاهم أهله يبكون.. ودعت الوالدة وأغلقت الهاتف مرةً ثانية، بقيت في مكاني لا أعرف ماذا أصنع، ثم اتصلت بشقيقه، فلما رد علي وسمعت صوته المتهدج، دب إلي اليقين، وسألته:ابوعبدالكريم.. فقاطعني وقال بصوت ممزوج بعبرات متكسرة: ابوعبدالكريم يطلبك الحل. أدرت محرك سيارتي متوجهاً لمنزله خارج الرياض، وذهبت في نفر من أهله إلى مغسلة الموتى التي سيغسل فيها، وحين فرغ المغسل أذن لنا بالدخول، وكشف لنا عن وجهه، فسلمت عليه، وقبلت بين عينيه، ودعوت له، ولم أملك نفسي حينها أن قلت: ما أطيبك حياً وميتاً يابوعبدالكريم.. جلسنا في منزله وقدم بعض الناس يعزون، وأنا لا زلت غير قادر على الإفاقة من صدمة المواجهة.. عدت للرياض وإلى هذه الساعة وصورته لا تفارق ناظري، وأعيد تذكر كل كلمة قالها حين كان في ضيافتي يوم الأربعاء الذي سبق وفاته، بل وكنت أدخل المجلس وأشاهد الزاوية التي افترشها ونام فيها.. مررت بحوادث ووفيات كثيرة، لكن لأول مرة يهجم علي الإحساس بقرب الموت ودنو الأجل بمثل هذه الصورة.. لما كنت في منزل ذويه والمعزون يقدمون عليهم كنت أطالع وجوه الناس، وأنظر لنفسي بينهم وأقول: كلنا قدمنا للعزاء، وغالبنا يظن أن المصيبة مصيبة غيره، وننسى أن هناك ساعة سجلت لكل واحد منا سيغادر فيها هذه الحياة، وسيغسل، ويوضع في كفنه، ويوسد لحده، وتصف اللبنات فوقه، ويهال عليه التراب، وينصرف الناس عنه.. من الناس من سيموت في هذا الشهر، ومنا من سيموت قبيل رمضان هذا العام ولن يدركه، ومنا من سيدرك سنةً أو سنتين أو مازاد على ذلك.. ولكنها النهاية المحتومة.. ساعةٌ مكتوبةٌ قريبةٌ منا سنغادر فيها هذه الحياة.. هذا الساعة التي تم تحديدها قبل أن تخلق السموات والأرض، وكتبها الملائكة الكرام حين كان الإنسان جنيناً عمره أربعة أشهر، نحن نسير إليها الآن بالعد التناقصي، فإذا كان العام الماضي يفصلنا عنها ثلاث سنين، فاليوم يفصلنا عنها سنتان، وهكذا نحن نقترب كل دقيقة من هذه اللحظة الحاسمة للانتقال للدار الآخرة.. هذه الحقيقة الكبرى كيف غفلت عنها طوال هذه السنوات؟ وكيف يغفل كثير من الناس عنها؟ الكثير من الناس يعرف هذه الحقيقة معرفة نظرية عقلية بحتة، لكنه لم يعشها يقيناً قلبياً غامراً يستحوذ على تفكيره.. ومن أعاجيب النفوس، وما يمور فيها من الأحاسيس؛ أن بعض الناس يكره ذكر الموت، ويدور في مشاعره الخفية أنه حين يتحاشى ذكره فإنه يبتعد عنه، وحين يذكره يكون قريباً منه، ويتكلف الأسباب المشروعة وغير المشروعة في مدافعة الموت يظن أنه سيؤجل يومه المكتوب؛ وهذا (الفرار النفسي) من الموت صوره القرآن تصويراً تبكيتياً حين قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة، 8] و هَبْ أنك فررت، وافترض أن خطراً من الأخطار سلمت منه؛ فحتى ما ستعيشه بعد ذلك سيظل فترة زمنية محدودة، يقول تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا)[الأحزاب، 16]. فحتى لو سلمت من خطر معين، فسيظل المتاع قليل، وسيأتي خطر لن تفر منه.. وصوّر القرآن معنى آخر قريباً من الفرار، وهو التحايد، فالفرار ابتعاد عن موضع الخطر، والتحايد أشبه بمحاولة التحاشي عن سهام الموت، يقول تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق،19]. فلن ينفع الفرار، ولن ينفع التحايد.. وستأتي قريباً ساعة الانتقال للدار الأبدية.. بل تأمل ما هو أعجب من ذلك، وهو أن الإنسان يسير بقدميه إلى الموضع الذي كتب الله وفاته فيه، وهو لايعلم القدر المخبوء، حيث يقول تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)[آل عمران، 154] بل قد تجد كثيراً من الناس يمر بطريق، أو غرفة، أو مستشفى، أو غيرها، سنوات عديدة من عمره، ولا يخطر بباله أن هذا الموضع الذي يمر به هو الذي كتب الله وفاته فيه بعد كذا وكذا من الساعات والدقائق.. والمراد أن هذه اللحظة القادمة التي تنتظرني وتنتظرك يا أخي الكريم؛ لحظةٌ لا تقبل التأجيل ولا التقديم، ساعة قررها الجبار جل جلاله، كما قال تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل، 61] ومن جملة التعلق بالأسباب المادية أن كثيراً من الساسة والأثرياء يتوهمون أنهم في قصورهم المشيدة أبعد عن مخاطر الموت من سكان الشقق والصفيح والأحياء العشوائية، والقرآن يكشف هذا الشعور المزيف، حيث يقول تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)[النساء، 78] ولذلك فإن فريقاً من الناس يكره فريضة (الجهاد) لأنه يظن أنها تقربه للموت! وينسى أن الموت قررت له ساعة معينة قبل أن يخلق، وقد شرح القرآن شيئاً من هذا التصور كما يقول تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)[النساء، 77] ولذلك يعرف الناس قصصاً كثيرة لمقاتلين تمرغوا فوق جبهات الشظايا وتحت قصف الطائرات، ومع ذلك عادوا لبلدانهم وعمروا سنين عددا، ويعرف الناس بالمقابل أصحاء أشداء داهمهم الموت فجأة فوق أسرَّتهم الأنيقة.. لماذا؟ لأن هذه الآجال محسومة قبل أن يخلق الناس لا ينفع فيها فرار ولا تحايد.. بل إن بعض الجهلة إذا ذكر له أن رجلاً من الناس مات في سبيل الله اعتبر سلامته هو من هذا الموت نعمة من الله، وهذا نظير تفكير عبدالله بن أبي حين حكى الله تصرفه ومقالته: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) [النساء، 72] وقفت بعد هذه الجنازة وأخذت أتذكر قوائم من الأصدقاء والأقرباء وغيرهم ممن حانت ساعة رحيلهم المكتوبة وودعونا في السنوات السابقة، تذكرت أصدقاء درسوا معنا في المرحلة الثانوية، وأصدقاء درسوا معنا في الجامعة، وأقرباء كانوا يخالطوننا بشكل دوري، وتذكرت علماء كانوا سمع الدنيا وبصرها، حين كنا نتداول أخبارهم، تذكرت ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين وابن غديان وغيرهم، بل تذكرت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي طاف بالكعبة وسعى بين الصفا والمروة وقرأ بالناس إماماً في مسجده بالمدينة النبوية؛ ذهبوا كلهم بين أطباق الثرى.. فكيف يا ترى يأمن الإنسان ويغفل وهو يرى الناس حوله يتناقصون؟! هذا والله سر من أسرار النفس البشرية.. يتبع |
All times are GMT +3. The time now is 08:56 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.