دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر .
و هذا لا يعني استعقابه في الحال ، من غير مهلة ؛
لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال ، إذا لم يوجد معه قرينة
تقيده به ، وتقصره عليه ؛ و إلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع
؛ لأنه موضوع لما هو كائن ، لم ينقطع .
وعليه فإن بناء الفعل ( يكون ) لا يدل بصيغته على الحال ؛
و إنما يدل على المستقبل المتراخي .
و هذا يعني أن آدم خلق وسُوِّيَ بشرًا من تراب الأرض وطينها ،
ثم صاِر إنسانًا عاقلاً بنفخ الروح فيه ؛
وذلك هو المراد بقوله تعالى :
بعد ذلك أمرت الملائكة بالسجود له،
وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة :
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) }
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) }
ولو امتثل الناس قول الله تعالى :
{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
لعرفوا كيف ابتدأ الخلقُ ،
ولو عرفوا، ما اختلف اثنان منهم في تفسير هذه الآية الكريمة،
وغيرها من الآيات التي لا تنطق بالحق
إلا لمن استنطقها من أولي النهى والبصائر ؛
كقول الله تبارك و تعالى :
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) }
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }
إلى غير ذلك من الآيات التي نمر عليها ، ونحن عنها غافلون .
- ثم بين تعالى أن ما أخبر به عباده في أمر عيسى - عليه السلام –
هو الحق الذي لا يحوم حوله باطلٌ ،
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ } .
فـ{ الْحَقُّ } على هذا خبر لمبتدأ محذوف.
أي: ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام { الْحَقُّ }، فحذف ؛ لكونه معلومًا .
و{ مِن رَّبِّكَ } حال من الحق..
و قيل : هو مبتدأ، استؤنف بعد انقضاء الكلام،
وهذا كما تقول : الحق من الله، والباطل من الشيطان . وقيل غير ذلك .
أما الامتراء فهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المَبْنيَّة على الأوهام ،
لا على الحقائق ؛ ومنه : المِراء .
﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أَحَدًا ﴾
وأَصله في اللغة : الجِدال ،
وهو مأخوذ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة، إذا أردت حلبها ؛
فكأن الشاكَّ يجتذب بشكِّه مراءً كاللبن الذي يجتذب عند الحلب .
يقال : قد مارى فلان فلانًا ، إذا جادله ؛ كأنه يستخرج غضبه .
و منه قيل : الشكر يمتري المزيد . أي: يجلبه .