عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 08-21-2013, 06:17 PM
بنت الاسلام بنت الاسلام غير متواجد حالياً
Moderator
 
تاريخ التسجيل: Sep 2010
المشاركات: 3,019
افتراضي

فإذا ثبت
أنه وصف كلامهم ، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم،
صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة .
وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه ،
بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره .
ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه،
فقال لنا قائل : فدلّوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله ،
لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها .
وإنما ضعّفنا هذا الجواب
لأن الذي حُكي و ذكر عجزُ الجن و الإنس عن الإتيان بمثله ،
فيجب أن نعلم عجز الجن عنه ،
كما علمنا عجز الإنس عنه و لو كان وصف عجز الملائكة عنه ،
لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه .
فإن قيل : أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل ،
وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة ؟
قيل : هذا كما أنه يدل على الجملة ، فإنه يدل على التفصيل أيضاً ،
فصح أن يلحق هذا القبيل ، كما كان يصح أن يُلحق بباب الجمل .
6- ومعنى سادس :
وهو أن ينقسم عليه الخطاب ، ومن البسط و الاقتصار ،
والجمع والتفريق ، والاستعارة و التصريح ، والتجوز والتحقيق ،
ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم ، موجود في القرآن .
وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم ،
في الفصاحة و الإبداع و البلاغة و قد ضمنا بيان ذلك [ من ] بعدُ ،
لأن الوجه ههنا ذكر المقّدمات ، دون البسط والتفصيل .
7- ومعنى سابع :
وهو أن المعاني التي تضمنها ، في أصل وضع الشريعة و الأحكام ،
والاحتجاجات في أصل الدين ، الردّ على الملحدين ،
على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف و البراعة ،
مما يتعذر على البشر ويمتنع
وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ،
والأسباب الدائرة بين الناس ،
أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة .
فإذا برع اللفظ في المعنى البارع ،
كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرّر ،
والأمر المتقرّر ، المتصوّر ، ثم أنضاف إلى ذلك التصرفُ البديع في الوجوه
التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد تحقيقه ،
بأن التفاصيل في البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ،
والمعاني وفقها ، لا يفضل أحدهما على الآخر ،
فالبراعة أظهر و الفصاحة أتم .
8-ومعنى ثامن :
وهو أن الكلام يتبين فضله و رجحان فصاحته ،
بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام ، أو تقذف ما بين شعر ،
فتأخذها الأسماع ، وتتشوّف إليها النفوس ،
ويرى وجه رونقها بادياً غامراً سائراً ما تقرن به ،
كالدرّة ، التي ترى في سلك من خرز ، و كالياقوتة في واسطة العقد .
وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير
وهي غرّة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه
، برونقه و جماله ، واعتراضه في حسنه و مائة ،
وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح و نص ،
ليتحقق ما ادّعيناه منه .
ولولا هذه الوجوه التي بيناها
لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التحمل للمقابلة ،
والتصنع للمعارضة ، وكانوا ينظرون في أمرهم ، ويراجعون أنفسهم ،
أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته ويتوقفون لها .
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك
علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور ،
لعلمهم بعجزهم عنه ، و قصور فصاحتهم دونه .
ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعاً فيهم ،
ولا متقدماً في الفصاحة منهم ، هذا الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ،
وحتى يعرف حال عجز غيره .
إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك ،
تحقيقاً بظهور العجز و تبيناً له .
وأما قوله تعالى حكاية عنهم :
{لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَهَـذَا}
[ الأنفال : 31 ]
فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ،
[ وقد يمكن
أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها ] ،
وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منها ، وهو يدل على عجزهم .
ولذلك أورده الله مورد تقريعهم ،
لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز
، والضمان إلى الوفاء ، فلما لم يفعلوا ذلك ـ مع استمرار التحدّي
وتطاول زمان الفسحة في إقام الحجة عليهم بعجزهم عنه ـ علم عجزهم ،
إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط .
ومعلوم من حالهم وحَمِيّتهم
أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيَّات وفي وصف الأزمَّة
والأتساع والأمور و التي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها ،
ويتنافسون في ذلك أشد التنافس ، ويتبجحون به أشد التبجح .
فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته لتكذيبه ، والذب عن أديانهم القديمة ،
وإخراجهم أنفسهم من تسفيه رأيهم ، وتضليله إياهم ،
والتخلص من منازعته ، ثم من محاربته و مقارعته ،
ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك ، وإنما يُحيلون أنفسهم على التعاليل ،
و يعلّلونها بالأباطيل [ هذا محال ] .
9- ومعنى تاسع :
وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً ،
وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة ،
وجملة ما ذكر من هذه الحروف
في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة ،
وهو أربعة عشر حرفاً ، ليدل بالمذكور على غيره ،
وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم .
والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية ،
وبنوا عليها وجوههاً أقسام، نحن ذاكروها :
فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة ، وأخرى مجهورة .
فالمهموسة منها عشرة :
وهي الحاء ، والهاء ، والخاء ، والكاف ، والشين ، والثاء ،
والفاء ، والصاد ، والسين .
وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة .
و قد عرفنا
أن نصف الحروف المهموسة
مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور .
وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء ، لا زيادة و لا نقصان .
" المجهورة "معناه : أنه حرف أشبع الاعتماد في وموضعه
ومنع أن يجري معه [ النفس ] حتى ينقضي الاعتماد و يجري الصوت .
" والمهموس" : كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه
حتى جرى معه النفّس .
وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية .
وكذلك مما يقسمون إليه الحروف ، يقول إنها على ضربين :
أحدهما حروف الحلق ، وهي ستة أحرف :
العين ، و الحاء ، و المهموزة ، و الهاء ، و الخاء ، و الغبن .
والنصف [الآخر] من هذه الحروف مذكورة في جملة الحروف
التي تشتمل عليها الحروف المثبتة في أول السورة ،
وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق .

رد مع اقتباس