عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 08-11-2013, 12:57 AM
بنت الاسلام بنت الاسلام غير متواجد حالياً
Moderator
 
تاريخ التسجيل: Sep 2010
المشاركات: 3,019
افتراضي

فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر؛
لأنه أتى بصيغة الاستغراق ،
و ليس في العناصر الأربعة ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء ؛
ليدخل فيها الحيوان البحري .. و في ذلك من مشاكلة اللفظ للمعنى
ما لا يخفى على من يعرف جوهر الكلام ، ويدرك أسرار البيان .
وقوله تعالى:
{ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[ آل عمران : 59 ]
معطوف على قوله :
{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }
[ آل عمران : 59 ]
بـ { ثُمَّ } ، وهي لترتيب المُخْبَر عنه، أو للتراخي الرُّتَبِي ؛
لأن المعنى: ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب،
ثم قال له:{ كُنْ }، فكان إنسانًا بنفخ الروح فيه .
فإنَّ تكوينه بقول : { كُنْ }
أرفع رتبة من قول : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }
الذي هو أسبق في الوجود .
و التَّكوين المشار إليه بـ { كُنْ } هو تكوينه على الصفة المقصودة
بإيجاد الروح فيه ، و نقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية .
فبهذه الكلمة كان عيسى كلمةً من الله تعالى ،
و بهذه الكلمة كان آدمُ أيضًا كلمةً من الله تعالى .
وعلى هذا الذي ذكرناه يكون الترتيب في الآية الكريمة ترتيبًا زمانيًّا ؛
إذ بينَ خلق آدم بشرًا من تراب، وجعله إنسانًا بإيجاد الروح فيه، زمان طويل
؛ ولهذا لم يكن خلقه إبداعيًّا كما كان خلق المسيح عليه السلام.
و مذهب أكثر المفسرين على أن { ثُمَّ } لترتيب الخبر .
و إلى هذا ذهب البغوي ، فقال في ذلك ما نصُّه: « فإن قيل :
ما معنى قوله :
{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }،
[ آل عمران: 59 ]
ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل : معناه : خلقه ،
ثم أخبركم أني قلت له:
كن فكان، من غير ترتيب في الخلق؛ كما يكون في الولادة،
وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا.
أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا .
وفساد هذا القول ظاهر لمن تأمله أدنى تأمل ؛
وإلا فكيف يقاس كلام الله الذي هو الأعلى في البلاغة والفصاحة
بقول مصطنع لا يمتُّ إليهما بأية صلة ؟
كيف يكون قوله تعالى :
{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[ آل عمران : 59 ]
مثل قول الرجل :
« أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » ؟
تأمل الآية جيدًا ، ثم انظر
كيف تفكَّك نظمها، ومُسِخَ معناها مَسخًا بهذا التقدير،
هكذا : خلقه اليوم من تراب ، ثم أخبره أمس أنه قال له: كن فيكون .
فالمعنى على هذا التقدير : { قَالَ لَهُ } في الأزل : { كُنْ فَيَكُونُ }،
ثُمَّ { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }.
أما قوله تعالى :
{ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }
[ آل عمران : 59 ]
فهو ظاهر المعنى ، لا يحتاج إلى تأويل،
وقد بينا السر في اختيار لفظ التراب دون لفظ الطين ولفظ الصلصال ..
و أما قوله تعالى :
{ كُنْ فَيَكُونُ }
[ آل عمران : 59 ]
فظاهر { كُنْ } يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في الحال ،
فأمره سبحانه بين الكاف و النون .
وظاهر { فَيَكُونُ } يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في المستقبل المتراخي .
وفي ذلك ما يسأل عنه :
كيف يقول سبحانه للشيء:{ كُنْ } ، ثم لا يكون واقعًا في الحال ؟
و لو كان ما أمر الله تعالى به واقعًا في الحال،
لكانت صياغة الآية هكذا : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان } ، فكيف يكون هذا ؟
و هل أمام قدرة القادر العظيم حواجز و حوائل ،
تحول بين القدرة ، وبين إمضاء ما قدرت على الفور و في الحال ؟
و قد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن هذا السؤال،
و ذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى : { فَيَكُونُ }
حكاية حال ماضية، وأن أصل الكلام: ( كُنْ، فَكَانَ ).
قالوا : وإنما عبَّر بصيغة المضارع المقترن بالفاء دون الماضي،
بأن يقال: ( فَكَانَ ) ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير
وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت.

رد مع اقتباس