ان الحمد لله ، نحمده تعالى و نستعينه و نستغفره و نستهديه ،
و نعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات أعمالنا ،
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
واشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له ،
واشهد ان سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ،
امام المتقين وقائد الغر المحجلين الى جنات النعيم ،
صلى الله و سلم و بارك عليه وعلى اله و اصحابه والتابعين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانه،
ومن ثَمَّ فاعلموا أنه ليس أسعَدَ للمرء ولا أشرَح لصدره ولا أهنَأ لروحه من أن يحيَا
في مجتمَعِه بين الناسِ صافيَ القلب صفيَّ الروح سليمَ الطباع مُنسلاًّ من وساوِس الضّغينة
وسَورَة الحقد والحسد والبغضِ والتشفّي وحبِّ الانتصار للذّات والانتقام من النّدِّ،
له سُمُوٍّ قلب يُعلي ذكرَه ويرفع قدره،
ترونَ مثلَه مُهنِّئًا رضيًّا حينما يَرى النعمةَ تنساق إلى أحدٍ غيره،
مدرِكًا فضلَ الله فيها على عبدِه، فتجِدون لسانَ حاله يلهَج
بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه أبو داودَ وغيره:
( اللّهمَّ ما أصبح بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدك لا شريك لك ،
ولا عجَبَ ـ عبادَ الله ـ في أنَّ طهارة مثلِ هذا القلب وزكاتَه لا تقف عند هذا الحدِّ فحسب،
بل إنه متى رأى أذًى أو بَلاء يلحَق أحدًا من المسلمين أو يحُلّ قريبًا من دارِه رثى لحالِه،
وتمنى له الفرجَ والغفرانَ من الله، ولم ينسَ حينَها أهمّيّةَ وأدِ الفرح بتَرَح الآخرين في مهدِه،
فلا يلبَث أن تُسارِعه سلامةُ قلبه، ولِسانُ حالها يقول ما رواه الترمذيّ
عن النبيِّ فيما يقولُه من رأَى مبتلى :
( الحمد لله الذي عافاني مما ابتَلاه به ، و فضَّلني على كثير ممن خلَق تفضيلاً ) .
إنَّ مثَلَ قلبٍ هذه حالُه كمثَل الإناء المصفَّح يستحيل تسرُّبُ السائل منه البتّة،
وهذا هو القَلب التقيُّ النّقيّ المشرِق الذي يبارِك الله فيه، فتتسارَع إليه الخيراتُ حَثيثةً
من حيث لا يحتسِب، وصاحبُ هذا القلبِ هو الذي ينجو مكرَّمًا يومَ لا ينفَع مال ولا بنون
إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
أيّها المسلمون، إنَّ المجتمعَ المسلم الصّفيَّ هو ذلِكم المجتمعُ الذي يقوم على عواطِفِ الحبِّ
والتآلُف والبُعد عن الأَثَرة المشاعَةِ بين أفراده، ولا مكانَ فيه للفرديّة المتسلِّطَة ولا الشحِّ الكنود،
بل حالُ نبيه وأفرادِه يُحيي في نفسِ المؤمن استحضارَ
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
وقولِ الله تعالى مادِحًا صفةَ قوم:
{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }
{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ
وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
إنَّ شريعتَنا الغرّاء قد جاءت حاضَّةً على التّراحُم والتلاحم والعدلِ والإنصاف،
ونبذِ التدابُر والتقاطُع والتباغُض والتحاسُد وبَذرِ الفِتَن وتأجيجِ الفرقة؛
لأنّ الإخلالَ بهذه المبادِئ ينمِّي جذورَ الخصومة ويضرِم نارها ويفرِّع أشواكَها
ويُذبِل زَهرَ المجتمَع الغضّ ويفتق جراحَه .
عباد الله ـ إنَّ سلامةَ الصدر وسَعتَه في التعامُل مع الآخرين هو المِقبَض المفقود
في أفئِدَة كثيرٍ من المجتمعات في هذا الزّمن إلا من رحِم الله وقليلاً ما هم،
فكم نحن بحاجةٍ إلى ذلكم في ردمِ هوّةِ التجافي والشّحناء، وكم نحنُ في حاجةٍ إليه
في تعامُلنا مع نوايَا الآخرين وكوامِنِهم، وفي تعامُلنا مع اجتهاداتِنا المطعَّمَة بالإخلاصِ
ومحاوَراتنا الناشِدةِ للحقّ، وكم تحتاجُ المجتمعاتُ المسلمة إلى ذلكم في تحديدِ معاييرِ التعامُل اليوميّ،
بين الفردِ والأسرة والأسرةِ والمجتمع والناصِحِ والمنصوح، وكم نحن بحاجةٍ ماسّة إلى سلامةِ الصّدر
وسَعته في نظرةِ المرؤوس إلى رئيسِه والمحكوم إلى حاكِمِه والعكس بالعكس،
مع مراعاةِ هيبةِ هذا الجانبِ وخطورتِه وعنايةِ الإسلام به؛ لِمَا في مراعاتِه
من تحقيقٍ للمصالح ودرءٍ للمفاسد.
إنّه بمثل هذا التوازُن الذي يمليه على المرء سلامةُ صدره تجاهَ الآخرين
لتبرز الأفضليّةُ التي ذكرَها النبي صلى الله عليه و سلم بقوله حينما سئل: أيّ الناس أفضل؟
قال صلوات ربى و سلامه عليه :
( كلُّ مخمومِ القلب صدوقِ اللسان ) ،
قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخمومُ القلب؟
قال صلى الله عليه و سلم :
( هو التقيّ النّقِيّ ، لا إثمَ فيه و لا بغيَ و لا غِلَّ و لا حسد )
كما لا ينبغي أن لا يغيبَ عنا أنّ هذا التوازنَ أيضًا كفيلٌ لبروز الخيريّة التي أشار إليها
النبيّ صلى الله عليه و سلم بقوله:
( خِيارُ أئمّتِكم الذين تحبّونهم و يحبّونكم ، و تُصلّون عليهم و يصلون عليكم
ـ أي : تدعون لهم و يدعون لكم ـ
، و شِرار أئمّتكم الذين تبغِضونهم و يبغِضونكم، و تلعَنونهم و يلعنونكم )
ألا فاتّقوا الله أيها المسلمون، وأنيبوا إلى ربكم، وأقيموا الصّلاةَ واتّقوه،
{ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ *
مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم،
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.