الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، سبحانه بيده الأمر و هو على كل شيء قدير ،
أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و هو اللطيف الخبير ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ،
زان بالإيمان قلبه ، و أرضى باليقين ربه ،
فصلوات الله و سلامه عليه و على آله و جميع صحبه ، و الآخذين بهديه ،
و المتبعين إلى يوم الدين لسنته .
فأوصيكم ـ أيُّها الناس ـ و نفسي بتقوَى الله عزّ و جلّ ، فاتَّقوا الله رحمكم الله ،
فأكرمُ الناسِ عند الله أتقاهم ، و مَن غَنِي قلبه غنِيَت يداه ، و مَن افتقَر قلبُه لم ينفَعه غِناه ،
و غِبطةُ العبد في ذِكر ربِّه و شكرِه و حُسن عبادته . طوبى لمن تَواضَع في غيرِ مذلَّةٍ ،
و تصدّق في غير مَعصيةٍ ، و اقتدى بأهل العِلم و الخَشية ،
و وَسِعته السنة ، و لم تَستهوهِ البِدعةُ ،
{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
أيُّها المسلِمون ، كَلمةٌ في دِين الله تامّةٌ ،
و وصيّةٌ من وصايا رسول الله صلى الله عليه و سلم جامِعةٌ ، آخذةٌ بمجامِع الدين ،
حاكمةٌ لدُروب السَّالكين ، يقوم فيها المسلم بين يدَي ربِّه على حقيقة الصِّدق و الوفاءِ بالعهد ،
كَلمةٌ عظيمةٌ تنتظِم الأقوالَ و الأفعالَ و النياتِ و الأحوال ، فهي لله و بالله و عَلى أمرِ الله ،
بها كمالُ الأمرِ و تمامُه ، و حصولُ الخير و نِظامه ، مَن لم يلتزِمها ضلّ سعيُه
و خاب جهدُه و انحرف مسلكُه ،
و من أخَذ بها و قام علَيها كمُلت محاسنه و استَوت طريقته .
تأمَّلوا ـ رحمكم الله ـ هذا السؤالَ الدَّقيق و الرّغبةَ العظيمة و الهمّة العاليةَ
من هذا الصحابيّ الجليل سفيان بن عبد الله الثقفيّ
حين توجَّه إلى رسولِ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قائلاً : يا رسولَ الله ،
قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنه أحدًا غيرَك ، أو قال : لا أسألُ عنه أحدًا بعدَك ،
فأجابه رَسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الجوابَ الجامع المانعَ :
( قل : آمنت بالله ، ثمّ استقم )
و عند الترمذي : قلت : يا رسولَ الله ، ما أخوف ما تخاف عليّ ؟
فأخذ بلسان نفسِه ثم قال :
قال الترمذيّ : " حديثٌ حسنٌ صحيح " .
عبادَ الله ، لقد أولى أهلُ العلم هذا التوجيهَ النبويَّ عنايتَهم ، و بسَطوا القولَ فيه لِعظمه
و أهمّيته ؛ لأنَّه الجامع لأمر الدين كلِّه . قال أهل العلم : و هَذا منتزعٌ مِن قولِه عزّ شأنُه :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ
أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *
نحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }
و اجتمع على تفسيرِ ذلك و بيانِه الخلفاء الراشدون الأربعة ،
فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه:
( لم يشركوا بالله شيئًا ، و لم يلتفِتوا إلى غيره ) ،
( استقامُوا على طريقِ الطّاعة ، و لم يروغوا رَوَغان الثعالِب ) ،
وعن عثمانَ رضي الله عنه قال :
و عن عليّ رضي الله عنه قال :
و مثلُه عن ابن عباس رضي الله عنهما .
معاشرَ الأحبة ، الاستقامةُ سلوكُ صراطِ الله المستقيم المدلولِ عليه
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }
دينٌ قيِّمٌ من غير عِوجٍ و لا ميل .
الاستقامة ـ رحمكم الله ـ تجمَع حُسنَ العمل و السير على نهجِ الحقّ و الصدق .
و أولى ما يُتعاهَد في الاستقامة استقامةُ القلب على التوحيدِ و معرفةِ الله و خشيتِه
و إجلاله و محبّته و هيبته و رجائه و دعائِه و التوكلِ عليه و الإعراضِ عمّا سواه ،
فإذا ما استقامَ القلبُ استقامتِ الجوارح كلّها على طاعة الله ، و في الحديثِ الصحيح :
( ألا و إنَّ في الجسَد مُضغةً ، إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه ،
و إذا فسدَت فسَد الجسد كلّه ، ألا و هي القلب ) .
و أعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعد القلب منَ الجوارح اللّسان ،
و في الحديثِ عن أحمدَ و غيرِه من حديث أنس رضي الله عنه
عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم أنّه قال :
( لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ، و لن يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه ) ،
و جاء في الحديثِ مرفوعًا و موقوفًا :
( إذا أصبحَ ابنُ آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفّر اللسان ـ أي : تخضَع له و تستسلِم ـ ،
فتقول : اتَّق الله ، فإنما نحنُ بك ، فإنِ استقمتَ استقمنا ، و إنِ اعوججتَ اعوججنا )
أيّها المسلمون ، المطلوبُ من العبد الاستقامةُ ، و هي السّداد ، فإن لم يقدِر فالمقاربَة ،
و مَن ضعُفت عنده المقاربة فيُخشَى عليه أن ينزل إلى التفريطِ و الإضاعَة ،
و قد قال عليه الصلاةُ و السلام :
( سدِّدوا و قارِبوا ، و اعلَموا أنّه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله ) ،
قالوا : و لا أنت يا رسولَ الله ؟!
قال عليه الصلاة و السلام :
( و لا أنا ، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه و فَضل )
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه .
بل أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم
أنَّ الإتيانَ بالاستقامةِ على وجهِها حقَّ الاستقامةِ أمرٌ لا يطيقهُ النّاس ،
فقال صلى الله عليه و آله و سلّم :
( استقيموا و لن تحصُوا ، و اعلَموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة ،
و لن يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن )
و في روايةِ الإمام أحمد : (( سدِّدوا و قارِبوا )) . فالسدادُ هو حقيقةُ الاستقامة ،
و هو الإصابةُ في الأقوال و الأعمالِ و المقاصِد .
و قد أمر النبيّ صلى الله عليه و سلم عليًّا رضي الله عنه أن يسأل ربَّه عزّ و جلّ السدادَ و الهدى ،
( و اذكر بالسداد تسديدَ الرمي ، و بالهدي هدايتَك الطريق )
و المقاربةُ : أن يصيبَ ما قرُب من الغرَض إذا لم يتمكَّن من إصابةِ الغرَض نفسِه ،
و جاء في حديث الحكَم بن حَزن الكلفي :
(( أيُّها النّاس ، إنّكم لن تعمَلوا و لن تطيقوا كلَّ ما أمرتكم به ، و لكن سدِّدوا و أبشِروا ))
أي : اقصدوا إلى التسديد و الإصابة و الاستقامة ،
و في حديثِ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال :
قال رسولُ الله صلى الله عليه و سلم :
( إنَّ المسلمَ المسدَّد ـ أي : المستقيم المقتصِد في الأمور ـ
ليدرِك درجَة الصَّوَّام القوَّام بآياتِ الله بحُسن خلُقه و كَرَم ضريبته )
حديث صحيح أخرجه أحمد و غيره .
نعم عبادَ الله ، يجمَع الاستقامةَ الاقتصادُ في الأعمال و لزومُ السنّة و سلوكُ سبيلِ القَصد
و الوسَط بين طرَفَي الإفراط و التفريط و اجتنابُ منهَج الجَور و الإضاعَة .
و تأمَّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآياتِ البيِّنات
من كتابِ الله في رَسم حدودِ الاستقامة :
يقول عزّ شأنه مخاطبًا نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه و سلم :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ }
فالاستقامة مقابِلُها الطغيان ، و مجاوزَةُ الحدّ في كلِّ أمرٍ خروجٌ عن الاستقامةِ فيه ،
و الطغيانُ ينتظم أصولَ المفاسد ، فكانت الآيةُ جامعةً في إقامةِ المصالح و دَرء المفاسد .
و عن الحسن البصريّ رحمه الله قال : " جعَل الله الدينَ بين لائين :
{ وَلاَ تَطْغَوا } ، { وَلاَ تَرْكَنُوا } ".
أمّا الآية الأخرى فقولُه سبحانه :
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ }
فجعل اتباعَ الهوَى مقابلَ الاستقامة .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ }
فقرَن الاستقامةَ بالاستغفار تنبيهًا إلى أنّه لا بدَّ من التقصير في الاستقامة .
و لقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } :
(ما نزَلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في جميع القرآن آيةً
كانت أشدَّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية ) ؛
و لذلك قال صلى الله عليه و سلم لأصحابِه حين قالوا : قد أسرَعَ إليك الشيب يا رسول الله !
فقال عليه الصلاة و السلام :
( شيَّبتني هودٌ و أخواتها ) .