الحمدُ لله المبدِئ المعيد، الفعّال لما يريد، خلقَ الخَلقَ بعِلمه، وقدّر لهم أقدارًا،
وضرَب لهم آجالاً لا يستأخِرون عنها ساعةً ولا يستقدِمون،
قدّر مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرضَ بخمسين ألف سنة
وكان عرشه على الماء، علِم ما كان وما سيكون، وكلّ شيء يجري بتقديره ومشيئته،
ومشيئتُه تنفذ لا مشيئة العباد إلا ما شاء لهم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن،
{عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأرْحَامِ
وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
[لقمان:34].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وخليله وخيرته من خلقه،
صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه
والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبَ الأجدّان الليلُ والنّهار.
أمّا بعد:
فاتقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخير الهدي هديُ محمّد،
وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها الناس، إنّ نعَمَ الله سبحانه على عباده تترَى، وإنَّ منكِرها لجاحد، ومؤمِّلَ حصرِها لعاجز.
إنها نِعَم تترادَف حلاقاتها حثِيثةً، يَمُنّ بها الباري جلّ شأنُه على عبادِه،
فيعطي هذا، ويمنع ذاك، ويبسط لمن يشاء، ويقدِر على من يشاء.
ألا إنَّ مِن أعظم النِّعَم التي يمنَحها الرزاق ذو القوّة المتين هي نعمة الصّحّة والعافية،
نِعمَة المعافاة في الجسَد والسلامة من الأسقامِ والأدواء؛
لأنّ الصحَّةَ التامّة والسلامةَ من العِلَل والأسقام في البدن ظاهرًا وباطنًا
هي مكمَن مِن مكامِن الحياة الهنيّة المستقِرّة والكمال الدنيويّ المنشود،
ومن هذا المنطلَق شاطَرَت الصّحّة العلمَ في تمام الملك
كما في قوله تعالى عن طالوت:
(( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))
[البقرة:247].
وإلاّ فما مَعنى الحياة بلا صِحّة؟! وما لذّةُ الطعام والشراب على مرضٍ وسقم؟!
وما قيمة الجاه والمال في ضَعف صحّةٍ وغلبة أدواء؟!
إذِ الفقير الصحيح أهنأ وأشرَح من الغنيِّ السقيم،
بل كيف تحلو عبادةُ المرء وتكتمِل مع سقمٍ مُردٍ وداءٍ مزاحِم؟!
فلِلَّه ما أهنأَ الصحيح وأسعَده إن شكر، وما أخزاه وأشقاه إن كفر،
ولعمرو الله إنَّ الصحّةَ لواحدة من ثِنتَين يُغبَن فيهما الناس
على حدِّ قول النبيِّ :
((نعمَتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ))
رواه البخاري،
ولقد أحسَنَ من وصَف الصّحّةَ تاجًا فوق رؤوس الأصحّاء،
لا يراه ويشرئبّ إليه إلاّ المرضى من الناس.
أيّها المسلمون، إنَّ مِن عناية شريعتِنا السّمحة بالصّحّة وسلامة الأبدان
ممّا يُضادّها أو يعكِّر تمامها هو حُسن تعامُلها مع التّداوِي والتطبُّب
والأخذ بالأسباب لمقاومَةِ الأدواء والأسقام، ما يؤكِّدُ سعةَ أفُق الشريعة،
وأنها شريعة خالدةٌ لم تدَع خيرًا إلا حضَّت عليه، ولا شرًّا إلاّ حذَّرت منه؛
لِتخرِسَ بذلك ألسَنةً متطاوِلة عليها قائلة: ما للشَّريعة وللطِّبِّ؟!
وما دخلُ الفِقه والأحكام في التّداوي والتطبُّب؟!
والواقعُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ العادل المنصف يعلَم ويدرِك وسيّطةَ الشريعة
وموقفَها من التداوِي واعتدالها في النظرة إليه؛
إذ لا إفراطَ في موقِفِها من التّداوي من جهةِ التعلُّق به بحيث يزاحِم التوكّلَ على الله
والاعتماد عليه والرّضا بقضائه وقدرِه،
ولا تفريطَ فيها أيضًا من جِهة الأخذ بالأسبابِ وإعمالها في مواطِنِها،
كما أنها وسَطٌ كذلك في النظرةِ إلى التداوي بحيثُ لا تفرِط فيه فتتعدَّى إلى التداوِي بالمحرم،
ولا أن تفرِّط إلى درجةِ أن تهملَ التداوِي بالمباح أو تمنَعَه.
ثم إنّنا نجد في الشريعة تارةً إيثار التوكّل على الله مطلقًا وتقديمَه على الأخذِ بالأسباب،
وأنَّ ذلك من سيما المؤمنين الصادقين في توكُّلِهم، كما في ذِكرِ النبيّ
للسبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّةَ بغير حساب ولا عذاب وأنهم هم
الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكلون.
رواه البخاري ومسلم.
وتارةً نجد الشريعةَ ـ عباد الله ـ تحضُّ على التداوي وتأمر به في غيرِ ما ذكِر آنفًا،
كما في حديث أسامة بن شريكٍ قال: كنتُ عند النبيّ وجاءت الأعراب فقالوا:
يا رسولَ الله، أنتداوى؟
قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا))
الحديث رواه أحمد وأبو داود.
ثم اعلموا ـ يرعاكم الله ـ أنَّ موقفَ الشريعة من التداوِي لم يكن مقتصِرًا
على السعيِ في رفع الداءِ بعد وقوعه، بل إنَّه تعدَّى إلى أبعدَ من ذلك على حدِّ
المقولةِ مشهورة: "الوقاية خيرٌ من العلاج".
فإنَّ من القواعدِ المقرَّرة في الشريعةِ تلكم القاعدة التي تنصّ على أنَّ الدفع أولى من الرّفع،
بمعنى أنّ دفعَ الشيء قبل أن يقعَ أولى في المبادرةِ مِن رفع الشيء بعد أن يقَعَ،
ويدلُّ لذلك نصوصٌ كثيرة من السنّة النبويّة، منها على سبيل المثال لا الحَصر
قولُ النبي : ((لا يورِدَنَّ ممرِضٌ على مُصحّ))
رواه البخاري ومسلم،
ومنها ما جاءَ عند مسلم في صحيحه من حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنه
أنّه كان في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبي :
((ارجِع فقد بايعناك))،
وجاء في الصّحيحين أنّ النبيَّ قال:
((من تصبَّح بسبعِ تمرات عَجوة لم يضرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سحر)).
ثم إنَّ مِن تمام نعمةِ الله على عباده أنه ما مِن داء إلا وقد جعَل الله له شفاءً
كائنًا ما كان هذا الداء، غير أنَّ ذلك منوطٌ بالعِلم بالدواء أو الجهل به،
وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم،
وقد جاءَ عند أحمدَ في مسنده أنَّ النبيَّ قال:
((إنَّ الله لم ينزل داءً إلا أنزلَ له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)).
وقد وهب الله في غابِرِ الأزمان وحاضرها بعضَ المسلمين من العلم بالطبِّ والتداوي
ما يشهَد لهذه الشريعة عنايتَها به ونظرتَها الواسعة للجانِب الصحيِّ في الأمة،
وأنَّ أمّةَ الإسلام لم تكن في أصلِها عالةً على غيرها في هذا الباب،
فعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: قدِمتُ المدينة ولم أكن رأيتُ رسولَ الله ،
فخرج وعليه ثوبان أخضَران فقلت لابني: هذا ـ والله ـ رسول الله ،
فجعل ابني يرتَعِد هيبةً لرسول الله ،
فقلت: يا رسول الله، إنِّي رجل طبيب، وإنَّ أبي كان طبيبًا، وإنّا أهل بيتِ طبٍّ،
والله ما يخفَى علينا من الجَسَد عِرق ولا عظم، فأرِني هذه التي علَى كتِفِك،
فإن كانت سِلعَةً قطَعتُها ثم داويتها الحديث. رواه أحمد.
ففي هذه النصوص ـ عبادَ الله ـ تَسلية وتقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ على حدٍّ سواء،
للسّعي في استجلابِ ما يقاوَم به الداء؛ لأنَّ استشعارَ المريض والطبيب بذلك يكون حافِزًا
لهما على التفاؤُل والرجاء الذي يقهَر به المرَض والداء.
ثم إنَّ الشريعة الإسلامية لم تدَع المرءَ المسلم مذَبذَبًا بين النظرةِ إلى التسليم
بالقَدَر والقضاء وبينَ النظرةِ إلى مدافعة ذلكم القدر،
فالداء والدواءُ كلُّه من عند الله، فكما أنَّ الداء ينزل بقدَر فإنَّ فعل الأسباب
ونفعَ الدواء لا يكون إلا بقدر، فالمرء في كِلتا حالتَيه يفرّ من قدَر الله إلى قدَر الله،
وقد جاء في السنن ومسند أحمد عن أبي خزامةَ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله،
أرأيتَ رُقًى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتَّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئًا؟
فقال: ((هي من قدر الله)).
ثم اعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه يجب علينا جميعًا الإدراكُ الصحيح
بأنَّ التداويَ ضدَّ الأسقام ضروبٌ ثلاثة:
فالضرب الأوّل منها هو التداوِي المشروع الذي استحبَّه الشارع الحكيم،
وهو ما وردَت فيه نصوص مخصوصةٌ به كالتداوِي بالقرآن وبزمزَم
وبالعسَل والعَجوة والحبّة السوداء وغير ذلكم ممّا وردت به النصوص الصحيحة
الدالّةُ على أنَّ بعضَ الأشياء تُعَدّ علاجًا لبعض الأمراض المخصوصة.
والضرب الثاني هو التداوِي بالمباح، وهو كلُّ دواءٍ لم يرد فيه أمرٌ به
بحيث يكون دواء شرعيًا، ولم يرد فيه منعٌ منه بحيث يكون دواءً محرَّمًا،
وهذا هو أوسَع ضروب التداوي، وهو أمر لا يقِف عند حدٍّ،
بل كما قال النبي :
((علمه من علمه، وجهله من جهله)).
والضرب الثالث ـ عباد الله ـ هو التداوي بالمحرَّم،
وذلك لنهي النبيِّ عن التداوي بما حرَّم الله لما رَوَى أبو داودَ في سننه
أنّ النبيَّ قال:
((إنّ الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتداوَوا ولا تداوَوا بالمحرّم))،
وأخرج البخاري في صحيحه تَعليقًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
(إنَّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرَّم عليكم).
والدواء المحرَّم ـ عبادَ الله ـ هو ما [كان] فيه أحَدُ أمرين :
أوّلهما أن ينصَّ الشارِعَ الحكيم على تحريمِ التداوِي بشيءٍ معيَّن،
كما نهى النبيّ من صَنَع الخمر للدّواء فقال له:
((إنّه ليس دواء، ولكنه داء))
رواه مسلم،
وكما في الحديثِ الذي رواه النسائيّ أنَّ طبيبًا ذكر ضِفدَعًا
في دواءٍ عند رسول الله فنهاه عن قتلها.
وأمّا ثاني الأمرين فهو أن تكونَ الأدوِيَة والعقاقير تحوي شيئًا من النّجاسات
أو المحرَّمات التي حرَّمها الشارع الحكيم،
كمالمستحضَرات المستخلَصَة من بعضِ الميتة كرِئَة البقر مثلاً
أو مخاطِيات أمعاءِ الخنازير أو أبوالِ الحُمُر الأهلية وألبانها،
أو أن تكونَ وسيلةُ العلاج وسيلةً محرَّمة كالعِلاج بالغِناء والموسيقى المحرَّمة
إجماعًا وبعض طرق التّنويم المغناطيسيّ؛
لأنَّ غايةَ الشفاء لا تبرِّر الوسيلةَ المحرَّمة في الوصول إليه.
ومن هنا جاءت مراعاةُ الشريعة لهذا الجانبِ المهمّ على أكمل وجه،
حتى طالت العنايَةُ بمسألة التداوي جوانبَ كثيرةً ذكرها الفقهاء وأطنبوا في بحثِها،
فتعدَّت إلى ذكر جنايةِ الطبيب في التداوي وأثرِ التداوي في ترخُّص المرءِ
كالفِطر في الصّوم مثلاً ونحو ذلك،
وكذا بعض الوسائِل التي يضطرّ إليها المرء حالَ التداوي ككشفِ العورة أو مسِّها،
وما ينشأ بين الحِين والآخر من نوازلَ طبيّةٍ تفتقر إلى التكييفِ الفِقهيّ لها،
ما يؤكِّد دورَ العلماء والفقهاء والمجامِع والمؤسَّسات الفقهيّة ويحضّ على دعمِها وتفعليها
وبذلِ الجهود لإبرازِ النّظرة الشرعية تجاهها؛ ليكونَ النّاس على بيّنةٍ مِن أمر دينهم،
ولئلاّ يختلِطَ المحرَّم بالمباح.
(( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِير ٍ))
[لقمان:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.