و أنزل معه الكتاب هدى للناس و بينات من الهدى و التنزيل .
نحمده سبحانه و تعالى و نشكره، و نتوب إليه و نستغفره ،
أمر بمكارم الأخلاق ، و نهى عن الجبن و البخل و النفاق .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و لا شبيه و لا نظير و لا مثيل ،
و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله ،
الموصوف بالعصمة ، و المبعوث بالهدى و الحكمة ،
أشرف الناس نفسا و أعلاهم همة ، يحمل الكل و يكسب المعدوم
و يعين على نوائب الحق بما لديه من كثير أو قليل .
صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و أصحابه القاصدين وجه الله إمساكا و إنفاقا ،
و التابعين لهم بإحسان من كل أمة و جيل .
أمـــا بعـــد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتَّقوا الله رحمكم الله ،
و لا يغرنَّكم سهلُ الدنيا ، فبعد السهلِ حُزون ، و الفرِحُ فيها محزون ،
و الحُزن فيها غير مَأمون ، ما ضحِكت فيها نفوس إلا و بَكَت عيون ، هي داء المَنون ،
من ركَن إليها فهو المغبون ، لم يهتمَّ بالخلاص إلا أهلُ التقى و الإخلاص ،
أيّامهم بالصلاح زاهرة ، و أعينُهم في الدُّجى ساهرة ، في نفوس طاهرة ،
و قلوبٍ بخشية الله عامرة ، يعملون للدنيا و الآخرة .
أيها المسلمون : الإسلام دين يقوم على البذل و الإنفاق ، و يضيق على الشح و الإمساك ،
حبب إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخية ،و أكفهم ندية ،
و وصاهم بالمسارعة إلى دواعى الإحسان و وجوه البر.
و أن يجعلوا تقديم الخير إلى الناس شغلهم الدائم، لا ينفكون عنه فى صباح أو مساء : “
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية
فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
غير أن الإنسان - يا عباد الله - مجبول على حب المال و الحرص على اقتنائه ،
يضرب فى مناكب الأرض و للأثرة فى نفسه إيحاء شديد ، أكثر تفكيره فى نفسه و أقله فى الآخرين
. و لو أنه أوتى ما فى الأرض جميعا، بل لو أنه امتلك خزائن الرحمة العليا لما طوعت له
نفسه أن تنفق منها بسعة ، و لقامت له من طبيعته الضيقة علل شتى تضع فى يديه الأغلال
{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق
و كان الإنسان قتورا}
أيها الأحبة في الله، البخل نزعة خسيسة يجب أن تخاصم بعنف ،
و أن تقاوم دسائسها بيقظة و نشاط ، إنه داء فتاك يزرع الحقد و الغل في الصدور ،
و ينبت السوء و البغضاء في القلوب ، تقطعت به الأواصر ، و انصرمت بسببه الوشائج ،
و قام على أساسه سوق الحسد و البغض ، كم فرق بين الأحباب ،
و كم أغلق من بيوتات و دمر مجتمعات ، إنه من أدوء الأدواء و أخبثها ،
إذا استشرى في قوم أهلكهم ، و إذا استفحل في أناس محق بركتهم .
البخيل ياعباد الله ، لا يثق في مولاه ، فهو دائماً سيء الظن بخالقه ، يحسب أنه لن يرزقه ،
و لن يكرمه ، و أن هذا الذي بين يديه من الخير و المال و النعمة لو انقضى فلن يأتي بعده خيرٌ ،
و لن يخلف الله عليه بسواه ، يظن هذا المخذول أنه لو تصدق من أمواله صار
فقيراً معوزاً كالمتصدق عليهم ، و ما أيقن هذا و أمثاله أن المال
لا تنقصه الصدقة بل تنميه و تبارك فيه .
يقول عليه الصلاة و السلام
( السخى قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار ،
و البخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، قريب من النار ،
و لجاهل سخى أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل )
إن الأموال المستخفية فى الخزائن ، المختبئ فيها حق المسكين و البائس ،
شر جسيم على صاحبها فى الدنيا و الآخرة، إنها أشبه بالثعابين الكامنة فى جحورها ،
كأنها رصيد الأذى للناس ، بل لقد بين عليه الصلاة و السلام أنها تتحول فعلا
إلى حيات تطارد صاحبها لتقضم يده التى غلها الشح . “
يقول عليه الصلاة و السلام.. .
( و لا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه ،
فإذا فر منه يناديه ، خذ كنزك الذى خبأت ، فأنا عنه غنى
فإذا رأى أنه لابد له منه سلك يده فى فمه ، فيقضمها قضم الفحل )
إن شرائع الإسلام لم تألو جهداً في إفهام الإنسان بالحسنى و الإقناع ،
أن محبته الشديدة لماله قد تورده المتالف ، و أنه لو فكر حقيقة ما يملك و فى عاقبته معه ،
لرأى السماحة أفضل من الأثرة ، و العطاء خيرا من البخل .
و في الحديث :
( يقول العبد : مالى مالى : و إنما له من ماله ثلاث :
ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فأقنى.
و ما سوى ذلك فهو ذاهب و تاركه للناس )
وعجيب ياعباد الله أن يشقى امرؤ فى جمع ما يتركه لغيره ، و إذا لم يستفد المسلم
من ماله فيما يصلح معاشه و يحفظ معاده فمم يستفيد بعد ؟
. و قد أماط الرسول صلى الله عليه و سلم اللثام عن هذه الحقيقة فقال
( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟
قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه.
قال: فإن ماله ما قدم و مال وارثه ما أخر )