الحمد لله وسعت رحمتُه ذنوبَ المسرفين ، و أعجزت نعمُه إحصاءَ العادِّين ،
عظُم حلمُه فستر ، و بسط يدَه بالعطاء فأكثَر ، أحمده سبحانه و أشكره ،
و أتوب إليه و أستغفره ، أطاعه الطائعون فشكر ،
و تاب إليه المذنبون فغفر ، لا تُحجب عنه دعوة ،
و لا تخيب لديه طِلبة ، و لا يضّل عنده سعي .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفضّل بجزيل النعم ،
و رضي بقليل الشكر ، و غفر بالندم كبير الذنب ،
و محا بتوبةِ ساعة خطايا سنين ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبد الله و رسوله ،
أرسله ربّه هدى و رحمة و سراجاً منيراً ،
صلـى الله و بارك عليه و على آله الطيبين الطاهرين ،
أذهبَ عنهم الرجسَ و طهَّرهم تطهيرا ، و على أصحابه الغرّ الميامين ،
رضي عنهم و أرضاهم و أعدّ لهم مغفرةً و أجراً كبيراً ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان ، و سلم تسليماً كثيراً .
أمـــــا بعـــــد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ،
فاتقوا الله رحمكم الله ، و استغفروه و توبوا إليه ، فالكرامة كرامةُ التقوى ،
و العزُّ عزّ الطاعة ، و الوحشةُ وحشة الذنوب ، و الأنسُ أُنس الإيمان و العمل الصالح ،
من لم يعتزَّ بطاعة الله لم يزل ذليلاً، و من لم يستشفِ بكتاب الله لم يزل عليلاً ،
و من لم يستغنِ بالله ظلَّ طولَ دهره فقيراً .
عبادَ الله ، أجيبوا داعيَ الله إذ دعاكم يُجبْكم إذا دعوتموه ،
قدِّموا لأنفسكم ما طلبه منكم مِن طاعتِه يؤتِكم ما رجوتُموه من رحمتِه ،
لولا فضل الخالق لم يكن المخلوق شيئاً مذكورًا ،
و لولا كرمُ الرازق لم يملك المرزوق نقيراً و لا قطميراً .
أيها المسلمون ، من صفا مع الله صافاه ، و من أوى إلى الله آواه ،
و من فوّض إليه أمرَه كفاه ، و من باع نفسَه لله اشتراه ، و جعل ثمنَه جنتَه و رضاه . وعدٌ من الله صادق ، و عهدٌ منه سابق ، و من أوفى بعهده من الله ؟!
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ
وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ *
ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ
ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }
[التوبة:111، 112].
معاشرَ الأحبّة ، ربُّنا الرحيم الرحمن أعلمُ بخلقه ، يعلم عجزَهم و ضعفَهم ،
و يعلم نقصَهم و تقصيرَهم ، فتَح لهم بمنّه و كرمه بابَ الرجاء في عفوِه
و الطمع في رحمته و الأمل في مرضاته و مغفرته ، دعاهم إلى ساحةِ جوده و كرمه ،
{ وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ }
[البقرة:221] ،
و في الحديث القدسي :
(( يا عبادي ، إنكم تخطئون باليل و النهار ،
و أنا أغفر الذنوب جميعاً ، فاستغفروني أغفر لكم )) ،
{ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[النور:22].
رحمةٌ من ربّكم فيّاضة لا ينقطع مددُها ، و نعمةٌ من عنده دفّاقة لا يضعُف سببُها ،
من ذا الذي يتألَّى على الله أن لا يغفر ذنوبَ عباده ؟!
{ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }
[آل عمران:135].
و من منَّة الله الكبرى و فضله العظيم أن يدعوَ عبادَه لعفوه و مغفرته ،
ثمَّ يُتبعها بمنةٍ أخرى ، يؤخِّرُهم إلى مهلة يراجعون فيها أنفسَهم ،
و يتدبَّرون فيها أحوالهم ،
{ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى }
[إبراهيم:10].
الذنوب ـ يا عباد الله ـ مغفورةٌ و لو كانت مثلَ زَبَد البحر ،
فلا يقنَطنّ عبدٌ من رحمة الله ، و من عظمت ذنوبُه و كثرت آثامه
فليعلمْ أنَّ رحمةَ الله و مغفرتَه أعظمُ و أعظم .
و التقصير من شأن البشر ، فإن نبيكم محمداً صلى الله عليه و سلم
يقول في الحديث الصحيح :
(( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، و لجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرون ،
فيغفر لهم )) .
سبحانك ربَّنا ، جلّ شأنك ، تباركت و تعاليت ، أنت غفارُ الذنوب ،
و ساترُ العيوب ، تبسط يدَك بالليل ليتوبَ مسيء النهار ،
و تبسط يدَك بالنهار ليتوبَ مسيء الليل ، و تنادي عبادَك و لك الحمد :
{ وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
[النور:31].
أيها الإخوة ، طوبَى لمَن عرفَ أنَّ له ربّاً رحيماً ، عفوّاً كريماً ، يقبل توبَة النادمين ،
و يُقيل عثراتِ العاثرين إذا لجؤوا إليه صادقين مخلصين ، غيرَ يائسين و لا مُصرِّين ،
كيفَ لا ؟! و قد أمر بذلك نبيَّه و المؤمنين :
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ }
[محمد:19].
أيها الإخوة ، إذا كثُر الاستغفار في الأمة و صدَر عن قلوبٍ بربّها مطمئنة
دفع الله عنها ضروباً من النقم ، و صرَف عنها صنوفًا من البلايا و المحن ،
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
[الأنفال:33]،
روى الترمذي من حديث أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى
النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
(( أنزل الله على أمّتي أمانين ))،
فذكر الآية:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ،
قال :
(( فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفار )) .
بالاستغفار تتنزَّل الرحمات ،
{ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
[النمل:4].
أيها الإخوة ، إن هناك صلةً قويّة بين طهارة الفرد و المجتمع من الذنوب و الخطايا
و قضاءِ الحاجات و تحقيقِ الرغبات ،
هناك ارتباطٌ متين بين القوة و الثروة و بين الاستغفار .
الاستغفارُ جالبٌ للخَصب و البركة و كثرة النسل و النماء .
الاستغفارُ مصدرٌ للعزة و المنعة ، اقرؤوا إن شئتم في خبر نوح عليه السلام :
{ فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *
يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً *
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً }
[نوح:10-12]،
و في خبر عاد الشداد مع نبيهم هود عليه السلام :
{ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ }
[هود:52].
المستغفرون يمتِّعهم ربّهم متاعاً حسناً من سعةِ الرزق و بسطِ الأمن و مدِّ العافيَة و رغَد العيش و القناعَة بالموجود و عدَم الحزن على المفقود . بالاستغفار يبلُغ كلُّ ذي منزل منزلته ، و ينال كلُّ ذي فضل فضلَه ، اقرؤوا إن شئتم في خبر نبيّكم محمد صلى الله عليه و سلم :
{ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا
إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ }
[هود:3].
في الاستغفار ـ بإذن الله ـ الفرجُ من كلّ همّ ، و المخرجُ من كلِّ ضيق ،
و رزقُ العبد من حيث لا يحتَسب ، و في الحديث :
(( من لزم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ همّ فرجًا ، و من كلّ ضيقٍ مخرجًا ،
و رزقه من حيث لا يحتسب )) .
إن الاستغفارَ الحقَّ صدقٌ في العزم على ترك الذنب ، و الإنابةُ بالقلوب إلى علامِ الغيوب .
إن الخيرَ كلّه معلّق بصلاح القلوب و قبُول الإيمان ، و حينئذ يأتي الغفران ،
{ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[الأنفال:70].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله ، اتقوا الله ربَّكم ، و توجَّهوا إليه بقلوبكم ،
و أحسنوا به الظنّ . ارجعوا على أنفسكم بالمحاسبة ،
و من صدَق في اللجوء صحَّت عنده التوبة . جانِبوا أهلَ الفحش و التفحُّش ،
و مجالسةَ أصحابِ الرَّدى ، و مماراةَ السفهاء . احفَظوا للناس حقوقَهم ،
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ }
[هود:85].
إنها لا تفسد الأحوالُ و لا تضطربُ الأوضاعُ إلا بطغيان الشهوات و اختلاط النيات
و اختلاف الغِيَر و المداهنات ، لا يكون الفسادُ إلا حينَ يُترَك للناس الحبلُ على الغارب ،
يعيشون كما يشتهون ، بالأخلاق يعبثون ، و للأعراض ينتهكون ،
و لحدود الله يتجاوَزون ، من غير وازعٍ و لا رادع ، إذا كثُر الخبثُ استحقَّ القومُ الهلاكَ ،
و بكثرة الخبثِ تُنتقَص الأرزاق ، و تُنزَع البركات ، و تفشو الأمراض ، و تضطرب الأحوال .
إنَّ للمعاصي شؤمَها ، و للذنوب أثرها ، فكم أهلكَت من أمَم ، و كم دمَّرت من شعوب ،
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ }
[الأنبياء:11].