رفع و خفض و أعز و نصر ، و هو العليم بما بطن و ما ظهر ،
أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
أحلَّ الحلال و بين طريقه ، و بالطيبات أمر ،
و حرَّم الحرام ، و أوضح سبيله ، و عن الخبائث زجر ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن محمداً عبده و رسوله المؤيد بالمعجزات و الآيات و السور ،
صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه السادة الغرر
ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان ما ليلٌ أدبر ، و صبحٌ أسفر .
أمـــا بعـــد ،
فاتقوا الله أيها الناس ، اتقوه في أنفسكم و أهليكم ، اتقوه في أعمالكم و أموالكم ،
اتقوه فيما تأكلون و ما تدخرون :
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلأرْضِ حَلَـٰلاً طَيّباً
وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
[ البقرة : 168 ] .
عباد الله ، كسب الرزق و طلب العيش شيء مأمور به شرعاً ،
مندفعة إليه النفوس طبعاً ، فالله قد جعل النهار معاشاً ،
و جعل للناس فيه سبحاً طويلاً . أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه .
و قَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله
و الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله ،
{ يَضْرِبُونَ فِى ٱلأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ
وَءاخَرُونَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }
[ المزمل : 20 ] .
و أخبر عليه الصلاة و السلام أنه
(( ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده ،
و إن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ))
رواه البخاري ،
و لقد قال بعض السلف : إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة .
و في أخبار عيسى عليه السلام أنه رأى رجلاً
فقال : ما تصنع ؟
قال : أتعبد .
قال : و من يعولك ؟
قال : أخي .
قال : و أين أخوك ؟
قال : في مزرعة .
قال : أخوك أعبد لله منك .
و عندنا – أهلَ الإسلام -: ليست العبادة أن تَصُفَّ قدميك ،
و غيرك يسعى في قوتك ؛ و لكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد .
و الاستغناء عن الناس ـ أيها الإخوة ـ بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ و عزٌّ منيفٌ .
حتى قال الخليفة المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن
أتسوق فيه لأهلي ؛ أبيع و أشتري .
و من مأثور حكم لقمان : يا بنيَّ ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر ،
فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه،
وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته.
إن في طيب المكاسب و صلاح الأموال سلامة الدين ، و صون العرض ،
و جمال الوجه ، و مقام العز .
و من المعلوم ـ أيها الأحبة ـ أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب ،
فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ، و قد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين ؛
فقال عزَّ من قائل :
{ يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً }
[ المؤمنون : 51 ]
وقال عزَّ شأنه :
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ
وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
[ البقرة : 172 ] .
و من أعظم ثمار الإيمان طيب القلب ، و نزاهة اليد ، و سلامة اللسان .
و الطيبون للطيبات ، و الطيبات للطيبين .
و من أسمى غايات رسالة محمد صلى الله عليه و سلم
أنه يُحلُّ الطيبات ، و يحرم الخبائث .
و في القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين
{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ
ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
[ النحل : 32 ] .