من:إدارة بيت عطاء الخير
درس اليوم
[ أثر اتباع الهوى ]
إن فريقا من ذوي الضلالات الاعتقادية، لم يصدهم عن الحق جهل
بالحقيقة، أو عامل من عوامل الانحراف الفكري، وإنما ضلوا بسبب
هروبهم من الحق، إرضاء لشهوات نفوسهم،
وإتباعا لرغباتهم وأهوائهم[1].
والهوى كما عرفه الإمامان ابن القيم وابن الجوزي رحمهما الله هو:
( ميل الطبع إلى ما يلائمه)[2]. وقيل
ميلان النفس إلى ما تستلذه
من الشهوات، من غير داعية الشرع)[3].
وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم
والمشرب والمنكح، ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث لها لما
يريده، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا
ولا مدحه مطلقا، وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب
المصالح ودفع المضار.
ولما كان الغالب من مطيع هواه، أنه لا يقف منه على حد المنتفع،
أطلق ذم الهوى والشهوات، لعموم غلبة الضرر، لأنه يندر من
يقصد العدل في ذلك ويقف عنده[4]، و( إنما سمي هوى
لأنه يهوي بصاحبه)[5].
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
(ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمه)[6]، كما قال تعالى
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }
[7].
والمعاصي التي يقترفها العبد، في غالبها تقع منه استجابة لداعي الهوى،
دون النظر إلى حكم الشرع في فعله، كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
( جميع المعاصي إنما تنشأ عن تقديم هوى النفوس على محبة الله
ورسوله)[8]، فهو يترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه
عبده[9]،كما في قوله تعالى
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
[10].
وقد نهى الله تعالى عن اتباع الهوى، وبين أثره القبيح على النفس،
في قوله
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }
[11].
ومدح من نهى نفسه ومنعها عن اتباع الشهوات وزجرها عنه وضبطها
بالصبر والتوطين على الخير[12]، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها،
ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما منه بوخامة عاقبتها[13].
وكذلك جاء في السنة النبوية ذم الهوى وإتباعه كما قال
صلى الله عليه وسلم:
( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت،
والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله )[14].
كما بيَّن صلى الله عليه وسلم أن اتباع الهوى يؤدي بصاحبه إلى الهلاك
في قوله:
( وأما المهلكات، فشح مطاع، وهوى متبع،
وإعجاب المرء بنفسه )[15].
والنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة ولفساد
قصدها تارة، ولمجموعهما تارة،[16] فإن كان للجهل فهو لشبهة أضلت
القلب، وإن كان لفساد قصد فهو لشهوة حلت فيه، فأمراض القلوب
نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة[17].
ومرض الشهوة أو الهوى، هو أصل كل شر وأساس كل بلوى، ومعتمد
كل بدعة في الدين، وهو الباعث القوي وراء الصد عن دين الله، ومعصية
أوامره، وهو أشد وطأة من الجهل (مرض الشبهة)، لأن الجهل ميسور
علاجه، وذلك بطلب العلم والتفقه في الدين، أما الهوى فهو الآفة الخطيرة
التي تحتاج إلى مجاهدة نفس، وعلاج طويل الأمد[18].
وقد استغرق علاج النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أهل مكة ما يربو
على عشرين عاما، فمن كان منهم شديد المخالفة لهواه، ورث قوة
في قلبه وبدنه ولسانه،[19] وكان من السابقين للإسلام، ومنهم
من اتبع هواه، وأغلق على نفسه أبواب التوفيق، وفتح على نفسه أبواب
الخذلان،[20] وتأخر إسلامه حتى تمكن من مخالفة هذا الهوى
واتبع الحق.
وقد كانوا في صدودهم عن الحق كسابقيهم من الأمم، التي استكبرت ولم
تقبل الحق والهدى والنور، إتباعا لهواها،[21] كما قال تعالى
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }[22].
وقد قال تعالى في تعليل عدم استجابة أهل مكة للحق: أنه اتباع لأهوائهم،
بلا دليل أو حجة
{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
[23].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة:
فاعلم أن تركهم إتباعك ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه، ولا إلى هدى،
وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم، فهذا من أضل الناس، حيث عرض
عليه الهدى والصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى دار كرامته،
فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة
إلى الهلاك والشقاء، فاتبعه وترك الهدى[24].
وذكر فائدة عظيمة من الآية وهي أنها ( دليل على أن كل من لم يستجب
للرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول
صلى الله عليه سلم، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى)[25].
والنجاة إنما ينالها الإنسان بإتباعه الحق، وهو الفرقان بين المسلم
والكافر، كما قال تعالى
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }[26]
فلا يستوي من كان على يقين من ربه، ولا يكون كمن زين له سوء
عمله، وهو عبادة الأوثان والإشراك بالله، والعمل لمعاصي الله واتبع هواه
في عبادتها وانهمك في الضلالات بلا شبهة توجب الشك ، فضلا عن حجة
نيرة[27]، وقد قال تعالى
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }[28].
[1] بتصرف، العقيدة الإسلامية أسسها ص 691.
[2] روضة المحبين ونزهة المشتاقين: الإمام شمس الدين محمد
بن أبي بكر بن القيم ص 469، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط:
بدون 1397هـ 1977م. وذم الهوى: الإمام أبو الفرج عبدالرحمن
ابن الجوزي ص 12، تحقيق: مصطفى عبد الواحد ومراجعة
محمد الغزالي، ط:1، 1381هـ 1962م.
[3] التعريفات ص 314.
[4] بتصرف، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص 469،
وبتصرف، ذم الهوى ص 12.
[5] ذم الهوى ص 12، والقول للشعبي رحمه الله.
[6] ذم الهوى ص 12.
[7] سورة الكهف جزء من آية 28.
[8] جامع العلوم والحكم ص 340.
[9] بتصرف، تفسير أبو السعود 8/73.
[10] سورة الجاثية جزء من آية 23.
[11] سورة ص جزء من آية 26.
[12] بتصرف، تفسير الكشاف 4/219.
[13] بتصرف، تفسير أبي السعود 9/104.
[14] سنن الترمذي كتاب صفة القيامة باب 25 4/ 638 ح 2459، وقال:
حديث حسن، وقال: ( معنى قوله دان نفسه: حاسب نفسه في الدنيا قبل
أن يحاسب يوم القيامة)، وسنن ابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر الموت
والاستعداد له 2/ 1423 ح 4260. وذكره الشيخ الألباني في ضعيف سنن
ابن ماجه ص 349 ح 930 ، وضعفه كذلك محقق جامع الأصول
11/ 13 ح 8475.
[15] جزء من حديث طويل رواه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب
كتاب الصلاة باب الترغيب في انتظار الصلاة بعد الصلاة 1/281 ح 14،
وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/183، المكتب
الإسلامي بيروت ودمشق، ط:1، 1402هـ 1982م. كما أورده
في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/412 ح 1802.
[16] بتصرف، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/ 137.
[17] بتصرف، شرح العقيدة الطحاوية: ص 237.
[18] بتصرف، في ظلال القرآن 6/ 3819.
[19] بتصرف، روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص 477.
[20]المرجع السابق ص 479.
[21] بتصرف، وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ص 189.
[22] سورة البقرة جزء من آية 87.
[23]سورة القصص آية 50.
[24] بتصرف، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/32.
[25] المرجع السابق ص 33.
[26] سورة محمد جزء من آية 3.
[27] بتصرف، فتح القدير 5/ 34.
[28] سورة محمد آية 14.
أسأل الله لي و لكم الثبات اللهم صلِّ و سلم و زِد و بارك
على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين