السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحمد لله العزيز الغفّار، يولج النهار في الليل و يولج الليل في النهار ،
يعلم غيب السموات و الأرض
{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
[الأنعام :103] ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمّدًا عبد الله و رسوله ،
نصح الأمّة بهديه و أنار ، و محا عنها لوثة الجاهلية و الشنار ،
فصلوات الله و سلامه عليه ، و على آله و أصحابه ما أدبر الليل و أقبل النهار ،
و سلّم تسليما كثيرا .
أمــــا بعــــد :
فإنّ الوصيّة المبذولة لنا و لكم ـ عباد الله ـ هي تقوى الله سبحانه
و خشيته في الغيب و الشهادة ،
و لزومُ هدي نبيّه صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم ،
و إيّاكم ومحدثات الأمور ؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة ، و كلّ بدعة ضلالة .
أيّها الناس ، إنَّ قوَّةَ المسلم و رفعتَه و علوَّ شأنه لتكمُنُ بوضوحٍ في مدى
إعتزازِه بدينه و تمسُّكِه بعقيدَتِه و أخلاقِه و مبادئه ،
و بُعدِه عن لوثةِ التقليد الأعمى و التبعيةِ المقيتة وراء المجهول .
و إنَّ على رأس الاعتزاز و الرّفعةِ التي هي مطلَب منشود لكلّ مجتمع ـ
و لا سيما المجتمعات المسلمة ـ هو الاتباعَ و الاقتداء لهديِ المصطفى
صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم و البُعدَ عن الإحداث و الابتداع ،
إتِّباعًا مِلؤه التأسِّي المخلِص و المحبّة الدّاعَّةُ إليه ،
إتباعًا يُشعِر كلَّ مسلم و مسلمةٍ أن الخضوعَ في الدين و الخلق الأدب
إنما هو لله الواحِدِ الأحد ؛
إذ كيف يحلو دين لا خضوعَ فيه و لا إتباع ؟! :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[الأنعام:153] ،
فكلُّ سبيلٍ غير صِراط الله عليه شيطانٌ يدعو إِليه ، فيحبِّب سالكيه إلى البدَع ،
و يبعِدهم عن السنّة ، و هي مرحلة من مراحلِ المراغمةِ بين الشيطان و بني آدم ،
أيّها المسلمون ، لقد كان مِن أسُسِ محبَّة الله جل و علا من قِبَل عباده
أن يجعَلوا من وسائل هذه المحبّة الإتباعَ الصادقَ لنبيّه
صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم ؛ ليحسنَ القصد و يصدُق الزّعم ، :
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
[آل عمران:31، 32] .
عبادَ الله ـ إن البِدَع و المحدثاتُ التي تقَع في المجتمعاتِ كالطوفان المغرِق ،
بيدَ أن السنّةَ الصّحيحة و الإتِّباع الصادِق هما سفينةُ نوح التي من رَكِبها فقد نجا
و مَن تركها غَرق ، و لا عاصم من أمر الله إلا من رحم .
في الصحيحَين من حديث أم المؤمنين أمنا السيدة عائشةَ رضي الله تعالى عنها و عن أبيها
أنَّ رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهوَ ردّ )) ،
و في روايةٍ لمسلم :
(( كل عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ )) .
فهَذا الحديث ـ عبادَ الله ـ أصل عظيم جامع من أصولِ الإسلام ،
و هو كالميزان للأعمال في ظاهِرِها ، فكلُّ عملٍ لا يكون عليه أمرُ الله
و لا أمرُ رسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم فليس مِنَ الدين في شيءٍ .
إنَّ الناظرَ في أحوالِ المسلمين و مبادِئِهم ليَحكُم حكمًا لا ريبَ فيه و لا فُتون
بأنَّ أهل الإسلام لا بد أن يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها ،
و أنّ عليهم أن يكونوا أمّةً متبوعة لا تابعة ، أمّةً لها ثقلُها الثقافيّ و الأخلاقي ،
أمّة لها مصدرها و وِردها الخاصّ الذي لا يساويه وِ رد و لا مصدَر في الوجود ،
أمّةً تسبِق جميعَ الثقافات و الحضارات بما لديها من مقوِّمات الاعتزاز و الرفعة و الغلبة ،
لا سيّما على المستوَى العقديّ و الأخلاقيّ .
و لكن الناظر في أحوال أبنائها يرى بكل أسف التراجُعَ في الاعتزاز و الأمتياز
أمامَ الغارة الأجنبيّة الكالحة ، و يرَى المشابهة الحثيثة التي تفقِد بعضَ المسلمين
هويّتهم و تميّزَهم الخلقي و العقدي ،
كلّ ذلك نتيجة تقصير في التوعيةِ أورثَ هذا الإنقياد و التبعية المقيتة ؛
ليحلّ ببعضِ المجتمَعات
ما ذكره المصطفى صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم بقوله :
(( لتركَبنّ سننَ من كان قبلكم حذوَ القذّة بالقذّة ،
حتى لَو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه )) ،
قالوا : يا رسولَ الله ، أاليهود و النصارى ؟
قال :
(( فمن؟! ))
رواه البخاريّ و مسلم ،
و ليصدُقَ فيهم ما ذكَره ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه حينَ قال :
( أنتم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا و هَديًا ، تتَّبعون عمَلَهم حذوَ القذّة بالقذّة ،
غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا ) .
و مَع ذلك كلِّه ـ عباد الله ـ فإنَّ لدى الناس من الفطرةِ و النشأة المتينة
و التأصيلِ ما يمكن من خِلاله يقظةُ النائمين و إِذكاء مبدأ تدافع العوائِد و العقائد ،
و الغلبةُ بلا شكّ للحقيقةِ التي لا تنقَطع البتة ،
و إن خفَتَ توهّجُها حينًا بعد آخر إلا أنّنا نرى وميضَ برقها يلوح في أفئدةِ
الغيورين من بني الإسلام ؛ حتى يتَّضح لكل متبصر أنّ صراع الثقافات
و إن كان قويَّ الفتك لأوّل وهلةٍ إلا أنّه سريع العطَب أمام المعتزِّ بدينه و هويّته ؛
إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غير أنها لا تموت قَطعًا ،
معاشر المسلمين : إنَّ من الأمور المحزنةِ و القضايا المفزِعة انسياقَ
بعض المسلمين وراءَ طبائع و عاداتِ و معتقدات غير المسلمين ،
من خلالِ الانخراط معهم في أعيادِهم و عوائدهم و عاداتهم التي حرَّمها دينُنا الحنيف ،
و حذّرنا أشدَّ التحذير من الوقوعِ في أتُّونها .
و مما يزيد الأمرَ عِلّةً أن نرَى فئامًا من البُسَطاء ينساقون وراء ذلكم ،
فيحاكون مواقعِيها زاعمين أنَّ في ذلك نوعًا من المجاراة الإيجابيّة
و التلاقح في العاداتِ و الثقافات ، فصال كثيرون و جالوا في ذلِك ،
حتى أصبح المرء يعرِف منهم و ينكر .
و على رأسِ ما ينكره المرءُ العاقل هو التأثّر و التأثير في أعيادِ غيرِ المسلمين
و إستسهال مثل ذلك الأمرِ بحجّة أنَّ الأنفتاح العالميَّ لم يضع بين الناس
فوارقَ و خصائص ، و أنَّ الاشتراك في الأعياد و المناسباتِ العقديّة لا ينبغي
أن تقفَ دونَه المِلَل ، و هذا أمرٌ جِدّ خطير .
و إِن شِئتم فانظُروا ـ يرَعاكم الله ـ ما وقَع من التأثير فيما يُسمّى :
" عيد الحبّ " أو " عيد الأمّ "
أو ما شاكَل ذلك بين صفوف المسلمين دون أن يعلَموا حقائقها و ما تتضمّنُه
في طيّاتها من مخاطرَ على عقيدة المسلم و خلُقه ،
و ما يقع فيه معاقِروها من مخالفةٍ لهديِ النبي صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم
و أرتكابٍ لما نهى عنه من مخالفةِ غير المسلمين .
و المشاهدُ لأصداءِ ما يُسمّى : " عيد الحبّ " ليوقن حقًّا درجةَ الغفلة و السّذاجة
التي تنتَاب شبابَ المسلمين و فتياتهم في السباقِ المحموم
وراء العوائدِ الأجنبية عن دينهم ، دون أن يكلّفوا أنفسَهم معرفةَ أصولِ تلكم العوائد .
و يَزداد الأسف حين يغيب الوعيُ عن كثير من ضحايا ذلكم التغريب
بأنَّ أصلَ عيدِ الحبّ عادة احتفاليّة يرجع تاريخها في بعضِ الروايات
إلى القرنِ الثالث الميلاديّ ؛ إحياءً لذكرى رجلٍ رومانيّ كان يبرِم عقودَ الزواج
سِرًّا لجنود الحرب الذين مُنِعوا من ذلك لئلاّ ينشغلوا بالزواج عن الحروب ،
حتى افتضحَ أمر ذلك الرجل ، و حُكم عليه بالإعدام ، فجعلوا يومَ إعدامه عيدًا
و ذِكرى يتهادَون فيها الورودَ و رسائلَ الغرام ، بل تجاوز الأمرُ أبعدَ من ذلك ،
حتى صارَ يومًا للإباحيّة عند بعض غيرِ المسلمين ،
و هو في الوقت الحاضِر يُعَدّ يوم عيد للعشّاق و المحبّين ،
يعبِّرون من خلاله باللّون الأحمر في لباسِهم و ورودِهم و رسائلهم و غير ذلكم .
و دينُنا الحنيف دينٌ سماويّ و رسالة عالميّة ، لها أثرها الإيجابيّ في المجتمعات ،
فلم يكن الإسلامُ يومًا ما محلاًّ لحصرِ المحبّة في يومٍ واحد ،
أو محلاًّ للبرّ بالأم في ليلةٍ واحدة ،
بل إنّه دين المحبّة و البرّ و المودّة في كلّ آنٍ و حين ،
فلقد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم أنه قال :
(( و الذي نفسي بيدِه، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمِنوا ،
و لا تؤمنوا حتى تحابّوا )) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ *
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ *
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
[الجاثية:18-20].
بارك لي و لكم في القرآن العظيم ، و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم .
قد قلت ما قلت ، إت صوابًا فمن الله ، و إن خطأً فمن نفسي و الشيطان ،
و أستغفر الله إنه كان غفّارًا .
الحمد لله على جزيل النعماء و الشكر له على ترادف الآلاء ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده و رسوله إمام المتقين و سيد الأولياء ،
صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله الأصفياء ، و أصحابه الأتقياء ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين و سلم تسليما .
أمــا بعـــد :
فاتقوا الله معاشر المسلمين . و أعلموا أنَّ للإسلام من الخصوصيّة و الامتياز
ما لا يجوزُ في مقابلِه الوقوع في خصائص غيرِه ،
فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم
قدِم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال :
(( ما هَذان اليومَان ؟ )) ،
قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة ،
فقال رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم :
(( إنَّ الله قد أبدَلَكما خيرًا منهما : يومَ الأضحى و يوم الفطر ))
رواه أحمد و أبو داودَ و النسائيّ ،
و في الصحيحَين أن النبي صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( إنّ لكل قوم عيدًا، و هذا عيدنا )) ،
و قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم أنّه قال :
(( من تشبَّه بقومٍ فهو منهم ))
رواه أحمد و أبو داودَ .
و مِن هنا نعلم ـ عبادَ الله ـ أنَّ المشاركين من المسلمين في مثلِ هذه الأعياد
قد وقَعوا فيما نُهِي عنه ، ويَكونونَ بذلك قد ارتَكبوا مفسدتين :
أولاهما : مفسدَة موافقة غيرِ المسلمين ،
و الثانية : مفسدَة ترك مصلحةِ مخالفتهم ،
و الله جلّ و علا يقول :
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ
مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ }
[الرعد:37] .
هذا، و صلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة و أزكى البشرية محمّد بن عبد الله ،
فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه ، وثنّى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسه ،
و أيّه بكم أيّها المؤمنون ،
فقال عز و جل خير و أصدق قائل سبحانه :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[الأحزاب:56] .
اللّهمّ صلِّ و سلِّم و بارك على عبدِك و رسولك محمّد الأمين ،
و آله الطيِّبين الطاهِرين ، و أزواجِه أمُهاتنا أمَّهات المؤمنين ،
و أرضَ اللَّهمَّ عن الخلفاء الأربعةِ الراشدين ؛ أبي بكر و عمَرَ و عثمان و عليّ ،
و عن الصحابةِ أجمعين ، و التابعين و مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
و عنَّا معهم بعفوِك و جودِك و كرمك و إحسانك يا أكرمَ الأكرمين .
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام و المسلمين ، و أذلَّ الشركَ و المشركين ،
و أحمِ حوزةَ الدّين ، و أنصر عبادَك المؤمنين...
ثم الدعاء بما ترغبون من فضل الله العلى العظيم الكريم