الحمد لله المحمودِ في عليائِه ، المتفرد في عزه و بهائه ،
أحمده سبحانه و تعالى و أشكره ، حمدًا و شكراً يليقان بعظمته و كبريائِه ،
و أتوب إليه و أستغفِره و أسأله المزيدَ من فضله و عطائِه ،
و أشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له آلائه و نعمـاءه ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمّدًا عبده و رسوله و خيرتُه من خلقه و أنبيائه ،
صلّى الله عليه و على آله و أصحابه و التابعين
و مَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم لقائِه .
أمــا بــعــد :
فأتقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون ،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
[ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
أيّها المسلِمون ، القُلوبُ السليمةُ و النفوسُ الزكيّة هي التي امتلأَت بالتقوَى و الإيمان ،
ففاضت بالخير و الإحسان ، و أنطبع صاحبها بكلِّ خلق جميل ،
و أنطوت سريرتُه على الصفاء و النقاءِ و حبِّ الخير للآخرين ،
فهو مِن نفسه في راحة ، و الناس منه في سلامةٍ ،
أما صاحب القلب السيئِ و الخلقِ الذّميم فالنّاس منه في بلاء ،
و هو من نفسه في عناء .
و إنَّ المتطلِّب بصدقٍ صلاحَ قلبه و سلامةَ صدره فليسلُك لتحصيل ذلك مسالكَه ،
و ليستصلح قلبَه بما يطهِّره ، و يجنِّبه ما يكدِّره . و لقد حوَى الكِتاب العزيز ،
و حفِلَتِ السنّةُ المطهرة بكلِّ خير و هدى يعود على النفوس و القلوبِ بالزكاء و الصفاء ،
و من ذلكم ـ عباد الله ـ ما رواه أبو هريرةَ رضى الله تعالى عنه
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه ))
رواه الترمذيّ و ابن ماجه و مالك في الموطأ و أحمد في المسنَد .
إنّه أصل عظيمٌ من أصول الأدَب ، فيه أنَّ من ترك مَا لاَ يَعني
و فعَل ما يعنيه فقد حسُن إسلامُه ، و قد جاءَت الأحاديث بأنَّ مَن حَسُن إسلامه
ضُوعِفت حسناته و كفِّرت سيِّئاته كما في صحيح مسلم و غيره .
وفي المسندِ عن أنس رضى الله تعالى عنه
أنَّ النبي صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبُه ،
و لا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه )) ،
و في الصحيحَين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلمقال :
(( مَن كان يؤمِن بالله و اليومِ الآخر
فليقُل خيرًا أو ليصمُت )) ،
و جماع ذلك كله في قول الله عز و جلّ :
{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
[ ق : 18 ] .
أيّها المسلمون ، إنّ الترفّعَ عن الخوضِ فيما لا يعني لمن تمامِ العقل ،
كما أنّه يورِث نورَ القلب و البصيرة ، و يثمر راحةَ البال و هدأَةَ النفس
و صفاءَ الضمير ، مع توفيقِ الله تعالى للعبد . إنها طهارة الروح و سلامَة الصدر .
و في سِيَر الذهبيِّ عن زيد بن أسلَمَ قال : دُخِل على أبي دجانةَ يرحمه الله في مرضه
و وجهُه يتهلَّل و يقول :
( مَا مِن عملٍ أوثق عندي من شَيئين : لا أتكلَّم فيما لا يعنيني ،
و قد كان قلبي سليمًا ) .
و في صحيح مسلم أن النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( إنَّ الله كره لكم قيلَ و قال )) .
إنَّ الاشتغال بما لا يعني يُنتِج قلّةَ التوفيق و فسادَ الرأي ، و خفاءَ الحقّ و فساد القلب ،
و إضاعةَ الوقت و حِرمان العِلم ، و ضيقَ الصدر و قسوةَ القلب ، و طول الهمّ و الغمّ ،
و كَسفَ البال و محقَ البركة في الرزقِ و العمر ، قال الحسن يرحمه الله :
" مِن علامة إعراض الله تعالى عن العبدِ أن يجعَل شغلَه فيما لا يعنيه ؛ خذلانًا من اللهِ عزّ و جلّ " .
عبادَ الله ، و لما كان مدارُ هذا الأمر على اللّسان و الكلام ، و التعبيرِ بالقلم و البيان ،
فقد توافَرت التوجيهات الرّبانيّة و النصائح النبوية بما لا يدع لأحدٍ عذرًا ،
ذلك أنَّ الكلام ترجمانٌ يعبِّر عن مستودَعات الضمائر و يخبر بمكنوناتِ السرائر ،
لا يمكن استرجاعُ بوادِرِه ، و لا يُقدَر على ردِّ شوارِدِه ،
فحَقٌّ على العاقل أن يحتَرِزَ من زلَلِه بالإمساك عنه أو الإقلال منه ،
و الصّمتُ بسلامة هو الأصل ، و السكوتُ في وقتِه صفَة الرّجال ،
كما أنَّ النطق في موضعِه من أشرف الخصال ، و في الحديث :
(( كفَى بالمرء كذِبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع ))
رواه مسلم .
قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه :
(مَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ، و من كثُر سقطه كثرَت ذنوبه ،
و من كثرت ذنوبه فالنّار أولى به ) ،
و من كان سكوته و كلامه لله عز و جل مخالفًا هوى نفسِه فهو أجدَر بتوفيق الله له
و تسديدِه في نطقِه و سكوته ، و من عَدَّ كلامَه من عمله قلَّ كلامُه فيما لا يعنيه و لا ينفعه .
إنَّ حفظَ اللسان دليلُ كمال الإيمان و حُسن الإسلام ، و فيه السلامة من العَطَب ،
و هو دليل على المروءَة و حسنِ الخلق و طهارة النفسِ ،
كما يثمرُ محبّةَ اللهِ ثمّ محبة الناس و مهابَتَهم له ، فأيُّ مجتمع طاهِر رفيع سينتُج ،
إذا التزم أفرادُه بهذه الوصايا ؟ ! لذا فإنّه ليس كَثيرًا إذا ضُمِنت الجنّةَ لمن أمسك لِسانه ،
ففِي صحيح البخاريّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قالَ :
(( مَن يَضمَن لي ما بين لحيَيه و ما بين رِجليه
أضمَن له الجنّة )) .
معاشر الإخوة : إنَّ الكلِمَة لها أثرٌ خطير ، و الحسابُ عليها عَسير ،
سَواءً قِيلَت باللّسان أو كتِبَت في الصحف و المجلاَّت أو تداوَلَتها المنتدَيات ،
و رُبَّ كلمة قالت لصاحبها : دعني ، و في الصحيحين
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال :
(( إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها
يَزِلّ بها في النّار أبعَدَ ما بين المشرق و المغرب )) ،
و قال تعالى :
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ }
[ الانفطار : 10 ، 11 ] .
و عن عقبةَ بن عامرٍ رضى الله تعالى عنه قال :
قلت : يا رسول الله ، ما النجاة ؟ قال :
(( أمسِك عليكَ لسانَك ، و ليَسَعك بيتُك ،
و ابكِ على خطيئتِك ))
رواه الترمذيّ بإسناد صحيح .
و لو أقبَلَ كلُّ مسلم على واجِبِه ،
و سعى فيما يُصلِح معاشَه و معاده واكلاً أمرَ الناس لخالقهم ،
سَاعِيًا في الإصلاح فيما أُسند إليه ، لكان أثرُه على نفسه و على المجتمع
أبلغَ من المحتَرِق بعيوب النّاس ، الراكِض خلفَ ما لا يعنيه ،
و في الحديث المتَّفق عليه :
(( المسلِمُ من سَلِم المسلمون من لسانِه و يده )) .
عبادَ الله ، الصغارُ هم الذين يهتمّون بالصغائر ، و يَتبَعون الدسائسَ ،
و يفتِّشون عن أحوالِ الناس ، قال المزنيّ يرحمه الله :
" إذا رأيتمُ الرجل موكلاً بذنوب الناس ناسيًا لذنبه فاعلَموا أنه قد مُكر به"،
و قال غيره : " مَن رأى أنه خيرٌ من غيرِه فهو مستكبِر ، كما قال إبليس :
{ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ }
[ الأعراف : 12 ] ،
و سماه الله استكبارًا "،
و قال ابن القيمِ يرحمه الله :
" و كم ترى من رجلٍ متورِّع عن الفواحش و الذنوبِ ، و لسانه يفرِي
في أعراضِ الأحياء و الأمواتِ ، لا يبالي بما يقول ، و ربما أوبَقَ نفسه " .
و في حديثِ معاذ بن جبل :
(( و هَل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم
إلاّ حصائدُ ألسنتهم ؟ ! )) .
إنَّ الحديث عن الآخرين و تتبّعَ سقَطاتهم و إشاعَتَها و الفَرحَ بها لمن
أقبَحِ المعاصي أثرًا و أكثَرِها إثمًا ، و لا يموت مقتَرِفها حتى يُبلى بها ،
(( و كلُّ المسلم على المسلم حرام ؛
دمه و مالُه و عرضه ))
رواه مسلم .
فكيف إذا كانَت مسائلَ خلاف بلا هدى ، و نوازع طيش على هوَى ،
و حبَّ غلبةٍ و رغبةَ استعلاء و إرادةَ خَفضٍ للآخرين ؟ !
فكيفَ إذا كانت غِيبةً لأهل الخير و تحرِيشًا خفيًّا أو جليًّا بالعلماء
و طلبةِ العلم و أهلِ الصلاح ، و تصنيفًا ظالمًا بلا برهانٍ و لا بيِّنة ،
و غمزًا و لمزًا و سخريةٍ و اتهامًا للعقائد و النيات ؟ !
إخوة الإيمان : إنّه لا خلاصَ مِن هذهِ الرّذائل إلاّ بعزيمةِ صدقٍ يكتال معها
المؤمن من فيوضاتِ الرحمة ما يلينُ قلبَه و يجعلُه أخشَى لربِّه ،
و لو كان مثلُ هذا صاحب ليلٍ يحيِيه بالحواميم ،
أو له في هَزيعِ اللّيل تملُّقاتٌ لربِّه تُكسِب قلبَه النورَ و تكسو وجهَه الضياء ،
أو اهتمامٌ بكتب الرقائقِ ، أو مجالسةٍ لأصحاب الهمَمِ العالية من العلماء
و الصالحين الصادقين ، أو كان رَطبَ اللّسان من ذكر الله ،
لترقَّى لمنازِلِ الصّدِّيقِين و لطَهُر قلبُه ، و هذا يحتاج إلى ترويضِ نفسٍ و مجاهدةٍ ،
و الله تعالى يقول :
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }
[ العنكبوت : 69 ] .
أيّها المسلمون ، و مِن مَذموم الخوضِ فيما لا يَعني التقحُّم بجهلٍ في مسائل العِلم ،
{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ }
[ لقمان : 20 ] ،
و من تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب ، و رَحِم الله السيوطيّ إذ يقول :
" لو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف".
بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم ، و نفعنا و إياكم بهدي سيّد المرسلين ،
أقول قولي هذا ، و أستغفر الله تعالى لي و لكم و لسائر المسلمين