28 خطبتى صلاة الجمعة بعنوان / الصــــدق
لفضيلة العضو الشيخ / نبيل عبدالرحيم الرفاعى
أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة
حصريــاً لبيتنا و لتجمع الجروبات الإسلامية الشقيقة
و سمح للجميع بنقله إبتغاء للأجر و الثواب
================================================== ================================
الحمد لله العلي الأعلى ، خلق فسوى ، و قدر فهدى ،
أحصى على العباد أقوالهم و أفعالهم في كتابٍ لا يضل ربي و لا ينسى .
أحمده سبحانه و أشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ،
له ما في السموات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جلَّت عظمته ، و عمت قدرته ،
و تمت كلمته صدقًا و عدلاً :
{ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ وَأَخْفَى }
[طه:7] .
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدًا عبده و رسوله بعثه بالحق و الهدى ،
فما ضل و ما غوى ، و ما نطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله دوحة البيت الطاهرة ،
و على صحابته عصبة الحق الظاهرة ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان العالمين في الأولى و الآخرة و سلم تسليمًا كثيرًا .
أمــا بعـــــد :
فأتقوا الله أيها المسلمون ، أتقوا الله و كونوا مع الصادقين ، اصدقوا مع الله ،
و أصدقوا مع عباد الله ، فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة ،
و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .
صدق الحديث ، و حفظ الأمانة ، و عفة النفس ، و القناعة بالمقسوم من صفات المؤمنين .
و الكذب و الخيانة ، و الطمع الخبيث و الخداع ، من علامات المنافقين
(( وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ))
[البقرة:204] .
قد أشترى الضلالة بالهدى ، و العذاب بالمغفرة و العاجل بالآجل ،
فهو من المارقين ، و بظلمه و أقترافه الكذب ، قد خرج من المخاطبين بقوله :
(( يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ))
[التوبة:119] .
أيها المسلمون ، إن كثرة الكذب و قلة الصدق ،
آفة إذا استشرت في مجتمع قوضت أركان سلامته ، و هدمت أساس استقراره ،
و بدلت اطمئنان أفراده قلقا ، و سعادتهم شقاء ، إذ أن حياة المجتمع في الثقة بين أفراده ،
و لنا أن نتصور إنسانا يعيش في مجتمع مليء بالكذبة ، فكيف تكون حاله ؟
كل خبر يسمعه لا يطمئن إلى صدق مخبره فيه ، حتى يتأكد بنفسه ،
و كل سؤال يسأله لا يرتاح إلى صدق مجيبه حتى يبلوه ،
لا يطمئن في التعامل مع أهله و جيرانه ، و لا في بيعه و شرائه ،
و لا في مكتبه و عمله ، لأنه لا يثق بصدق الناس في إخبارهم و تعاملهم ،
فهل يمكن للمسلم في مثل هذا الجو القاتم أن يحيا حياة مثمرة ،
فضلا عن أن تكون حياة سعيدة هانئة ؟
إن تقدم المجتمع المسلم و رفاهيته و سلامته و إطمئنان أفراده ،
كل ذلك مرهون بشيوع الصدق بين أفراده ، و إنتشار الثقة بينهم ،
و إضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن ، في تعاملاتهم و عباداتهم ،
و إعلانهم و مدارسهم ، و في شؤون حياتهم كلها .
أيها المسلمون ، لقد حث النبي ( صلى الله عليه و سلم ) على الصدق ،
لأنه مقدمة الأخلاق و الداعي إليها ، و هو علامة على رفعة المتصف به ،
فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار ، و به تحصل النجاة من جميع الشرور ،
كما أن البركة مقرونة بالصدق ، قال ( صلى الله عليه و سلم ) :
(( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا و بينا ، بورك لهما في بيعهما ،
و إن كذبا و كتما محقت بركة بيعهما ))
[رواه البخاري ومسلم] .
و انظروا في الناس من حولكم ، فلن تجدوا صادقا في معاملته ،
إلا وجدتم رزقه رغدا ، قد حاز في ذلك الشرف و السمعة الحسنة ،
يتسابق الناس إلى معاملته ، و يسعون إلى صحبته ،
الصادق – ياعباد الله- يطمئن إلى قوله العدو و الصديق ،
الصادق الأمين مؤتمن على الأموال و الحقوق و الأسرار ،
و متى حصل منه كبوة أو عثرة ، فصدقه شفيع مقبول ،
أما الكاذب فلا يؤمن على مثقال ذرة ، و لو قدر صدقه أحيانا ،
لم يكن لذلك موقع ، و لا يحصل به ثقة و لا طمأنينة ،
ألا تروا قول الله ـ عز وجل ـ في إخوة يوسف عندما قالوا لأبيهم :
(( يأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـٰفِظِينَ *
وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِى كُنَّا فِيهَا وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ *
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ))
[يوسف:81-83] .
فصدقهم هذا أبطله كذبهم الأول حينما قالوا عن يوسف :
(( أَكَلَهُ ٱلذّئْبُ ))
[يوسف:14].
ناهيكم ـ أيها المسلمون ـ عمن اعتاد على الكذب و صار عادة له
هل تخالوه يصدق و لو مرة ؟
قال الأصمعي : قلت لكذاب أصدقت قط ؟
قال : لولا أني أخاف أن أصدق في هذا لقلت لا . فيا للعجب .
الصدق ـ أيها الأخوة ـ تبرم به العهود الوثيقة ، و تطمئن له القلوب على الحقيقة ،
فمن صدق في حديثه كان عند الله و عند الناس صادقا محبوبا ، مقربا موثوقا ،
شهادته بر ، و حكمه عدل ، و معاملته نفع ، و من صدق في عمله ،
بَعُد عن الرياء و السمعة ، صلاته و زكاته ، و صومه و حجه ،
و علمه و دعوته ، لله وحده لا شريك له ، لا يريد بإحسانه غشا و لا خديعة ،
و لا يطلب به من الناس جزاء و لا شكورا ، يقول الحق و لو كان مُرًّا ،
لا تأخذه في الصدق مع الله لومة لائم ، فصدقه في أقواله و أفعاله ،
هو مطابقة مظهره لمخبره ، و تصديق فعله لقوله .
فالعلماء الذين ورثوا الأنبياء في رسالتهم ،
و في تبليغ الدين الذي جعله الله أمانة في أعناقهم ،
يجب أن يكونوا القدوة الصالحة في تحريهم للصدق ، في أقوالهم و أفعالهم ،
و أن يعملوا بما يحملونه من العلم و ينقلونه من الدين ، كما قال ـ تعالى ـ:
(( وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ))
[آل عمران:79] .
و تلك ـ يا عباد الله ـ من أبرز مظاهر الصدق في العالم .
أيها الأحبة في الله - التاجر الذي يعرض السلعة ، يؤمل فيها الربح المبارك ،
يجب عليه أن يتحرى الصدق في قوله و عمله ، فلا يروج سلعته بالكذب ،
و الأيمان الفاجرة ، فإن ذلك يمحق الكسب ، و يذهب ببركة الربح .
و المحترف بأية حرفة ، و الصانع في أي مجال للصناعة ،
يجب أن يتحرى الصدق في قوله و عمله ،
فلا يزعم زعما لا يصدقه الواقع ، و تكذبه الحقيقة .
و الموظف المؤتمن على مصالح الأمة ، مهما ارتفعت وظيفته ،
و أتسع نفوذه و تشعبت مسؤولياته يجب عليه أن يتحرى الصدق ،
فيما يرفعه إلى ولاة الأمر عن الرعية ، من تقارير و أحكام ، فلا يقرر غير الواقع ،
و لا يحابي أو يجامل أناسا على حساب الآخرين ، و إلا كان غاشا للناس ،
مدلسا فيما يرفعه لولاة الأمر من مصالح العباد و شؤونهم ، تعظم مسؤوليته أمام الله ،
و يؤاخذ على ظلمه للعباد و تقريره خلاف الواقع
((ألا كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته))
[رواه البخاري و مسلم].
و كذلك من يحترف الصحافة ، أو يتصدى لإشاعة الأخبار بأي وسيلة من الوسائل ،
يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما ينقله و يرويه ، فلا ينقل كذبا ، و لا ينشر باطلا ،
فإن الكذب حين يذاع ، و الباطل حين ينشر ، يعظم بين الناس خطره ،
و يتفاقم ضرره ، لذلك كله يضاعف الله عقابه ،
قال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) في حديث طويل مفاده
(( رأيت الليلة رجلين أتياني ، و قالا: إن الذي رأيته يشق شدقه فكذاب ،
يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق ، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة ))
[رواه البخاري و مسلم] .
أيها المسلمون، لقد أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
أن يسأله بأن يجعل مدخله و مخرجه على الصدق ؛ حيث قال :
(( وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا ))
[الإسراء:80] .
و أخبر عن خليله إبراهيم بقوله :
(( وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلاْخِرِينَ ))
[الشعراء:84] .
و بشر عباده بقوله :
(( وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ قَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ مُّبِينٌ ))
[يونس:2] .
و قال ـ تعالى ـ:
(( إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ *فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ)) [القمر:54، 55] .
فهذه خمسة أشياء ،
مدخل الصدق ، و مخرج الصدق ، و لسان الصدق ، و قدم الصدق ، و مقعد الصدق ،
و حقيقة هذه كلها هو الحق الثابت المتصل بالله ، الموصل إلى الله ،
و هو ما كان بالله و لله من الأقوال و الأفعال .
و على هذا الطريق و هذا النهج القويم ، سار سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ ،
فضربوا لنا أروع الأمثلة ، و بلغوا قمم البطولات ، و أناروا بصدقهم دياجير الظلمات ،
و رسموا لنا معالم الصدق على صحائف من نور .
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه حين قال :
أما و الله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) ،
ليرين ما أصنع ، فشهد أحدا ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال إلى أين ؟
فقال : لريح الجنة إني أجد ريحها دون أحد . فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع و ثمانون ،
ما بين رمية و ضربة و طعنة ، فنزل قوله ـ عز و جل ـ:
(( مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ))
[الأحزاب:23] .