الحمد لله باسمه تُبتدَأ الصالحات و بحمده تُختتم ،
و الحمد لله العفوِّ الكريم الأكرم ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ،
و أشهد أنَّ سيدنا و نبينا محمّدًا عبده و رسوله، و خيرته من خلقه ،
و مُصطفاه من سائر الأمَم ، صلّى الله و سلَّم و بارك عليه ،
و على آله و صحبه و التابعين ، و من اقتفَى أثرَهم و التزم .
أمّــــا بعــــــــد :
أيّها المسلمون ، فتقوَى الله تعالى خيرُ وصيةٍ ، و خير لباسٍ و أكرَم سجيّة ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102] .
من اتّقى الله وقاه ، و من خانَه هتَك ستره و ابتلاه ، الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه ،
و المؤمِّل غيرَ فضل الله خائبةٌ آماله ، و العامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه ،
الأسباب منقطعةٌ إلا أسبابه ، هو الله الذي يُخشى ، و هو الله الذي يُرجَى ،
و أهلُ الأرض كلِّ الأرض لا و الله ما ضَرّوا و لا نَفَعوا ، و لا خفضوا و لا رفعوا ،
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19] .
أيّها المسلمون ، أيّها المتعبّدون ، أيّها الصائمون القائمون ،
قريباً ستودَّعون شهراً عظيماً و موسماً كريماً ، تحزن لفراقه القلوب المؤمنة ،
فقد قُوّضت خيامه ، و تصرّمت أيامه ، و قد كنَّا البارحة نتلقَّى التهانيَ بقدومه
و نسأل الله بلوغَه ، و قريباً نتلقَّى التعازيَ برحيله و نسأل الله قبولَه ،
بالأمس نترقّبه بكلّ فرح و خشوع ، و غداً نودّعه بالأسى و الدموع ،
و تلك سنّة الله في خلقه ، أيّامٌ تنقضي ، و أعوام تنتهي ،
إلى أن يرث الله الأرض و من عليها و هو خير الوارثين .
نسأل المولى جل و علا أن نكون ممن يُقبل صيامهم و قيامهم ، و سائر أعمالهم ،
إنه سميع مجيب .
عباد الله : إنَّ خلقًا من خلقِ الله امتلأَت قلوبهم بمعرفتِه ، و فاضت نفوسُهم بتعظيمه ،
بذَلوا صالحًا أضعافَ ما بذَلتم ، و عبَدوا الله فوقَ ما عبدتم ،
و رأوا أنهم لم يفعلوا شيئًا . و قد أخبر النبيّ عليه الصلاة و السلام
أنّ ما في السموات السبع موضع قدمٍ
و لا شبرٍ و لا كفّ إلا و فيه ملكٌ قائمٌ أو ملكٌ راكعٌ أو ملكٌ ساجِد ،
فإذا كان يومُ القيامة قالوا جميعًا :
( سبحانَك ما عبدناك حقَّ عبادتك ، إلا أنّا لا نشرك بك شيئًا ) .
أيّها المسلمون ، تعظيمُ الله في القلوب و إجلالُه في النفوس و التعرّف على آلائه
و أفضالِه و قدرُه حقَّ قدره هو و الله زادُ العابدين و قوّة المؤمنين و سلوَى الصابرين ،
و هو سياج المتَّقين . من الذي عرف الله فاستهان بأمره أو تهاون بنهيه ؟!
و من الّذي عظّمه فقدّم عليه هواه ؟! فالله سبحانه يُعبد و يُحمَد و يُحَبّ
لأنه أهلٌ لذلك و مستحقُّه ، بل ما يستحقّه سبحانه لا تناله قدرَة العباد
و لا تتصوّره عقولُهم ؛ لذلك قال أعرف الخلق بربِّه عليه الصلاة و السلام
كما في الحديثِ الصحيح :
(( لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك )) ،
و في الصحيحين :
(( و لا أحدَ أحبّ إليه المدح من الله ؛ و لذلك مدح نفسه )) .
أيها المسلمون، ربُّكم الذي تعبدون و له تصلّون و تصومون و إليه تسعون
و تحفِدون ربٌّ عظيم ، له من صفاتِ الكمال و الجلالِ ما يفوق الوصفَ و الخيال ،
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء: 111] .
لا إله إلا الله العظيم ، سبّحت له الأفلاك ، و خضعت له الأملاك ،
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ <IMG alt=http://www.alminbar.net/../images/mid-icon.gif width=14 height=14> لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ <IMG alt=http://www.alminbar.net/../images/mid-icon.gif width=14 height=14>
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد 1-3] .
سبحانه و بحمدِه ، كيف لا يستولي حبُّه على القلوب و كلّ خيرٍ منه نازل
و كلّ فضلٍ إليه ، فمنه سبحانه العطاء و المنع ، و الابتلاء و المعافاة ،
و القبضُ و البسط ، و العدلُ و الرحمة ، و اللُّطف و البرّ ، و الفضل و الإحسان ،
و السِّتر و العَفو ، و الحِلم و الصّبر ، و إجابة الدعاء و كشف الكربة و إغاثةُ اللهفة ،
بل مطالبُ الخلق كلِّهم جميعًا لديه ، و هو أكرم الأكرمين ،
و قد أعطى عبدَه فوقَ ما يؤمِّله قبلَ أن يسألَه ، يشكُر القليلَ من العمل و ينميه،
و يغفر الكثير من الزلَل و يمحوه ؛ فكيف لا تحبّ القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ،
و لا يذهب بالسيئات إلا هو ؟! يجيب الدعوات ، و يقيل العثرات ،
و يغفر الخطيئات ، و يستر العورات ، و يكشف الكربات ؛ فهو أحقّ من ذُكر ،
و أحق من شُكر ، و أحقّ من عُبد و حُمد ، و أنصرُ من ابتُغِي ، و أرأَف من ملك ،
و أجود من سُئل ، و أوسع من أعطى ، و أرحم من عاقب ، و أكرم من قصِد ،
و أعزّ من الُتجئ إليه ، و أكفَى من تُوكِّل عليه ، أرحمُ بعبده من الوالدة بولَدِها ،
و أشدّ فرَحًا بتوبةِ التائب من فرَح من وجد ناقتَه بعد فقدِها
و عليها طعامه و شرابه في أرض مهلكة .
فسبحانَ الله و بحمده ، هو الملك لا شريكَ له ، و الفرد الذي لا ندَّ له ،
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88] ،
لن يطاعَ إلا بإذنِه ، و لن يعصَى إلا بعلمِه ، يطاع فيشكر ،
و يُعصى فيعفو و يغفِر ؛ فهو أقربُ شهيد و أجلّ حفيظ و أوفى بالعهد
و أعدلُ قائمٍ بالقِسط ، حال دون النفوس ، و أخذ بالنواصي ،
و كتب الآثار ، و نسخ الآجال ؛ فالقلوب له مفضية ، و السِّرّ عنده علانية ،
و الغيبُ لديه مكشوف ، و كلّ أحدٍ إليه ملهوف ، عنتِ الوجوه لنور وجهه ،
و عجزتِ العقول عن إدراكِ كُنهِه ، أشرقَت لنور وجههِ الظلمات ،
و استنارت له الأرضُ و السماوات ، و صلَحَت عليه جميع المخلوقات .
أزمَّة الأمور كلّها بيده ، و مَرادُّها إليه ، مستَوٍ على سريرِ مُلكِه ،
لا تخفى عليه خافيةٌ في أقطار مملكتِه ، تصعَد إليه شؤون العباد و حاجاتهم
و أعمالهم ، فيأمر سبحانه بما شاء ، فينفُذُ أمره ، و يغلب قهره ،
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] ،
يغفر ذنبًا ، و يكشف كربًا ، و يفكّ عانيًا ، و يجبر كسيرًا ، و ينصر ضعيفًا ،
و يغني فقيرًا ، يحيي و يميت، و يُسعِد و يشقِي ، و يُضلّ و يهدِي ،
و يُنعم على قوم و يَسلب نعمتَه عن آخرين ، و يعزّ أقوامًا و يذلّ آخرين ،
هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ <IMG alt=http://www.alminbar.net/../images/mid-icon.gif width=14 height=14> هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 22، 23] .
له القدرةُ المطلقَة و الإرادَة التامّة ، كلَّم موسى تَكليمًا ،
و تجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا ، و هو سبحانه فوق سمواته لا تخفى عليه خافية ،
يسمع و يرى دبيب النملة السوداء على الصخرةِ الصّماء في الليلةِ الظلماء ،
لا تشتبِه عليه الأصوات مع اختلافِ اللغات و تنوّع الحاجات ،
و لا تتحرَّك ذرّةٌ في الكون إلا بإذنه ،
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ
وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59] ،
اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة: 256] .
حجابه النور ، لو كشَفه لأحرقَت سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره ،
فإذا كانت سبحاتُ وجهه الأعلى لا يقوم لها شَيءٌ من خلقه فما الظنّ
بجلال ذلك الوجهِ الكريم و جمالِه و بهائه و عظمَته و كبريائه ؟!
لذا كان أعظم نعيمِ أهل الجنة التلذُّذ بالنّظر إلى وجهِ الكريم جلّ جلاله ،
و هو موقفٌ عظيمٌ يتجلّى فيه كبرياء الله و عظمته و جماله و جلاله .
أيّها المسلمون ، و في موقفٍ آخَر دلَّت على بعضِه آياتٌ من القرآنِ
و أحاديث من السنة ، أورد بن كثير يرحمه الله
أنه حين ينفخ إسرافيل في الصورِ نفخةَ الصعق فيموتُ أهل السموات و الأرض ،
و يجيء ملك الموت فيسأله ربه و هو أعلم : من بقي ؟
فيقول: بقيتَ أنت الحيّ الذي لا يموت ، و بقي حملةُ العرش ،
و بقي جبريل و ميكائيل و إسرافيل ، و بقيتُ أنا ،
فيأمره ربّه بقبض أرواحهم ،
ثم يقول و هو أعلم : من بقي ؟
فيقول ملك الموت : يا رب ، بقيتَ أنت الحيّ الذي لا يموت ، و بقيت أنا ،
فيقول الله عز و جل : أنت خلقٌ من خلقي فمُتْ فيموت ،
فإذا لم يبقَ إلاَّ الله الواحد القهارُ كان آخرًا كما كان أوّلاً
طوَى السمواتِ و الأرضَ طيَّ السجلّ للكتب ، ثم دحاها ،
ثم يقول : أنا الجبار ، أنا الجبار ، أنا الجبار ( ثلاثًا ) ،
ثم هتَف بصوته : لمن الملك اليوم ؟ لمن الملك اليوم ؟ لمن الملك اليوم ؟
ثم يجيب نفسَه بنفسِه : لله الواحد القهار .
ثم يبدّل الله الأرض غيرَ الأرض و السموات ، فيبسطهما و يسطحهما ثم يمدّهما ،
ثم يزجُر الله الخلقَ كلَّهم زجرة فإذا هم في هذه الأرض المبدلّة ،
فيحيي الله الخلق ، فيقِف الناسُ موقفًا واحدًا مقداره سبعونَ عامًا ،
لا ينظر إليهم و لا يقضِي بينهم حتى يشفَع فيهم سيدنا محمّدٌ <IMG alt=http://www.alminbar.net/../images/salla-icon.gif width=14 height=14> .
و روى ابن كثير بسنده أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
(( فأرجع فأقف مع الناس ، فبينما نحن وقوفٌ إذ سمعنا حسًّا من السماء
شديدًا فهالنا ، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلَي من في الأرض من الجنّ و الإنس ،
حتى إذا دَنوا من الأرض أشرقَتِ الأرض بنورِهم و أخذوا مصافَّهم
و قلنا لهم : أفيكم ربُّنا؟ قالوا : لا ، و هو آتٍ ،
ثم ينزل من أهل السماء الثانية بمثلَي من نزَل من الملائكةِ
و بمثلَي من فيها من الجنّ و الإنس ، حتى إذا دنَوا من الأرض
أشرقت بنورهم و أخَذوا مصافَّهم
و قلنا لهم : أفيكم ربُّنا ؟ فيقولون : لا ، و هو آتٍ ،
ثم ينزلون على قدرِ ذلك من التّضعيف من كل سماء ،
حتى ينزل الجبارُ جلّ جلاله في ظُللٍ من الغمامِ و الملائكة ،
فيحمِل عرشَه يومئذٍ ثمانية ، أقدامهم في تخوم الأرض السفلى ،
و الأرض و السموات إلى حجزتهم و العرش على مناكبهم ،
لهم زَجلٌ في تسبيحِهم يقولون : سبحانَ ذي العرش و الجبروت ،
سبحانَ ذي الملك و الملكوت ، سبحانَ الحيّ الذي لا يموت ،
سبحانَ الذي يميتُ الخلائق و لا يموت ، سبّوحٌ قدوس ربّ الملائكة و الروح )) .
ألا فاتقوا الله عباد الله ، و عظموا أمره ، و اجتبوا نهيه ،
استصغروا أعمالكم أمام عظمة نعمه عليكم ، و احذروا سخطه و غضبه ،
فو الله ليس أحد من الخلائق يقوى على غضبه و مقته و عقابه .
نعوذ بالله من الأمن من مكر الله ، و من الاستخفاف باطلاع الله ،
نعوذ به من التوكل إلا عليه ، و من السؤال إلا منه ، و من الذل إلا إليه ،
و من الخوف إلا من عقابه . اللهم انزع من قلوبنا كل ذكر إلا ذكرك ،
و كل تعظيم إلا تعظيمك ، و كل خوف إلا منك .