للإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ }
اقترح عليك قراءة الآيات أولاً حتى تستفيد من الفوائد وتفهم العبر.
في القصة فوائد عظيمة، وعبر لمن اعتبر بها:
أنها تفيد الخوف العظيم الدائم في القلب، وأن المؤمن لا يأمن حتى تأتيه
الملائكة عند الموت تبشره، وذلك من قصة إبليس وما كان فيه أولاً
من العبادة والطاعة، ففي ذلك شيء
من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم:
( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ).
أن لا يأمن عاقبة الذنب، ولو كان قَبْلَه طاعاتٌ كثيرة، وهو ذنب واحد،
فكيف إذا كانت الذنوب بعدد رمل عالج ؟! ومن هذا قول بعض السلف:
نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، فقال: اذهبوا فلا أقبل منكم
عملا، أو كلاما هذا معناه .
وأبلغ منه قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا،
ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه )
قال علقمة: كم من كلام منعنيه حديث بلال، يعني هذا.
أنها تخلع من القلب داء العُجب، الذي هو أشد من الكبائر.
أنها تُعرِّف المؤمن شيئا من كبرياء الله وعظمته وجبروته، ولا يدلي
عليه، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ. وقد وقع في هذه الورطة كثير
من العباد فمستقل ومستكثر.
التحذير من معارضة القدر بالرأي، لقوله:
{ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ }؛
وهذه بلية عظيمة لا يتخلص منها إلا من عصمه الله، لكن مقل ومكثر.
تأدب المؤمن من معارضة أمر الله ورسوله بالرأي، كما استدل بها
السلف على هذا الأمر، ولا يتخلص من هذا إلا من سبقت
عدم الاحتجاج بالقدر عند المعصية، لقوله:
{ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي }،
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا }
معرفة قدر المتكبر عند الله، خصوصا مع قوله:
{ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا }.
الفخر بالأصل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في ذلك؛
والفخر منهي عنه مطلقا، ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل ؟
الشهادة لما كان عليه السلف، أن البدعة أكبر من الكبائر؛
لأن معصية اللّعين كانت بسبب الشبهة، ومعصية آدم بسبب الشهوة .
عدم الاغترار بالعلم؛ فإن اللّعين كان من أعلم الخلق،
عدم الاغترار بالرتبة والمنْزلة، فإنه كان له منْزلة رفيعة،
وكذلك بلعام وغيره ممن له علم ورتبة ثم سلب ذلك.
معرفة العداوة التي بين آدم وذريته، وبين إبليس وذريته،
وأن هذا سببا لمّا طرد عدو الله، ولعن بسبب آدم لمّا لم يخضع.
وهذ المعرفة مما يغرس في القلب محبة الرب جل جلاله، ويدعوه إلى
طاعته وإلى شدة مخالفة الشيطان؛ لأنه سبحانه ما طرد إبليس ولعنه
وجعله بهذه المنْزلة الوضيعة بعد تلك المنْزلة الرفيعة، إلا لأنه لم يخضع
بالسجود لأبينا آدم، فليس من الإنصاف والعدل موالاته، وعصيان المنعم
جل جلاله، كما ذكر هذه الفائدة بقوله:
{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }.
معرفة شدة عداوة عدو الله لنا، وحرصه على إغوائنا بكل طريق، فيعتدَّ
المؤمن لهذا الحرب عدته، ولا يعلم قوة عدوه وضعفه عن محاربته
"إن عدواً يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، إنه لشديد المؤونة
إلا من عصمه الله، وقد ذكر الله عداوته في القرآن في غير موضع،
معرفة الطرق التي يأتينا منها عدو الله، كما ذكر الله تعالى عنه
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }،
وإنما تعرف عظمة هذه الفائدة بمعرفة شيء من معاني هذا الكلام، وأنا
أمثل لك مثالاً واحداً لما ذَكر السلف، وهو: أن العدو الذي من بني آدم إذا
أراد أن يمكر بك، لم يستطع أن يمكر إلا في بعض الأشياء وهي الأشياء
الغامضة، والأشياء التي ليست بعالية.فلو أراد أن يمكر بك في أمر واضح
بين، مثل التردي من جبل أو بئر وأنت ترى ذلك، لم يستطع، خصوصا إذا
عرفت أنه قد مكر بك مرات متعددة، ولو أراد ليمكر بك لتتزوج عجوزاً
شوهاء وأنت تراها، لم يستطع ذلك.وأنت ترى اللعين - أعاذنا الله منه –
يأتي الآدمي في أشياء واضحة بينة أنها من محارم الله، فيحمله عليها
حتى يفعلها، ويزينها في عينه حتى يفرح بها، ويزعم أن فيها مصلحة
{ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا }
{ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ }
من قبل الدنيا فإنهم يعرفونها وعيوبها ومجمعون على ذمها، ثم مع هذا
لأجلها قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وفعلوا ما فعلوا، وهذا معنى
قول مجاهد: {من بين أيديهم} من حيث يبصرون.فهو لم يقنع بإتيانه
إياهم من الجهة التي يجهلون أنها معصية، مثل ما فسر به مجاهد
قال: "من حيث لا يبصرون، ولا من جهة الغيب"، كما قال فيها بعضهم،
الآخرة أشككهم فيها، لم يقنع بذلك عدو الله، حتى أتاهم في الأمور التي
يعرفونها عيانا أنها النافعة وضدها الضار، وفي الأمور التي يعرفون أنها
سيئات وضدها حسنات، ومع هذا فأطاعوه في ذلك، إلا من شاء الله منهم،
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
أن معرفة هذه القصة تزرع في قلب المؤمن حب الله تعالى الذي هو أعظم
النعم على الإطلاق وذلك من صنعه سبحانه بالإنسان وتشريفه، وتفضيله
إياه على - الملائكة، وفعله بإبليس ما فعل لما أبى أن يسجد له، وخلقه
إياه بيده، ونفخه فيه من روحه، وإسكانه جنته.وقد خاطب الله سبحانه
بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل مع
آبائهم، وذكرهم بذلك واستدعاهم به، وذكرهم أنه فعله بهم، كقوله:
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }
وغير ذلك.وذكر النعم التي هي أصل الشكر الذي هو الدين؛ لأن شكرها
مبني على معرفتها وذكرها، فمعرفة النعم من الشكر، بل هي أُمّ الشكر،
( من أُسْدِىَ إليه معروف فذكره فقد شكره، فإن كتم فقد كفره )
هذا في الأشياء التي تصدر من بني آدم، فكيف بنعم المنعم على الحقيقة
والكمال ؟ واجتمع الصحابة يوما في دار يتذاكرون ما من الله عليهم به،
من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجلس الفضيل وابن أبي ليلى