وإذا ظهرَ التوحيدُ في الأوطانِ حلَّ الأمنُ والأمانُ فيه، قال تعالى:
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا }
في الحجِّ يتجلَّى الإيمانُ بالرُّسُل وتتجدَّدُ محبَّتُهم،
فالنَّحرُ والرميُ والطوافُ سُنَّةُ أبينا إبراهيم - عليه السلام -.
والدعاءُ هو العبادة، ودعواتُ الحاجِّ تُرتجَى إجابتُها،
ودعواتُ الخليل إبراهيم بقَبول العمل والثَّبات على الإسلام ورُؤية المناسِك،
ودعوتِه ببِعثَة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
وأن تكون مكَّةُ بلدًا آمنًا والرِّزقُ فيها دارًّا، والناسُ تهوِي إليها،
وأن يُجنَّبَ هو وأبناؤُه عبادةَ الأصنام، وأن يكون هو وذريَّتُه من مُقيمِي الصلاة،
ودعاؤُه لنفسِه وللمؤمنين بالمغفِرة. كلُّ ذلك كان عند بيت الله الحرام.
ودعواتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - تنوَّعَت في مواطِن من حجِّه؛
كيوم عرفَة، وعلى الصفا والمروة.
والحاجُّ يغتنِمُ في حجِّه الإكثارَ من الدعاء أُسوةً بالأنبياء.
والتوكُّلُ على الله أحدُ رُكنَيْ العبادة، إبراهيمُ - عليه السلام بنَى الكعبةَ مُتوكِّلاً على الله:
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
فرأى الناسُ ثمرةَ توكُّله
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ }
وفي اجتماعِ الخلقِ في موقفٍ واحدٍ تذكيرٌ بفضلِ هذه الأمة وعظَمَة دينِها.
في الحجِّ توثيقُ عقيدة الولاءِ والبراءِ،
أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم – عليَّ بن أبي طالبٍ أن يُنادِي في الموسِم :
( ألا لا يحُجُّ بعد العام مُشرِكٌ )
وفيه مُخالفةُ الكفارِ في عباداتهم الجاهلية؛ من التَّلبِيَة،
وزمن الدفع من مُزدلِفَة، وكثرة ذِكر الله وحدَه بعد انقِضاء النُّسُك.
قال ابن القيِّم - رحمه الله -:
[ استقرَّت الشريعةُ على قصدِ مُخالَفَة المُشرِكين لاسيَّما في المناسِك ]
الحجُّ أطولُ عبادةٍ بدنيَّة وأدقُّها في الإسلام، والعباداتُ فيه مُتنوِّعةٌ من تلبيةٍ، وطوافٍ،
وسعيٍ، ومَبيتٍ، ورميٍ، وحلقٍ، ونحرٍ، وتعظيمُ الشعائِر فيها،
وتكميلُ العبودية فيها من تقوى القُلوب.
قال ابن القيِّم - رحمه الله -:
[ وروحُ العبادة هو الإجلالُ والمحبَّة، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخر فسَدَت ]
في النُّسُك حثٌّ على توطِين الصبرِ على الطاعات،
قالت عائشةُ - رضي الله عنها -:
( نرى الجهادَ أفضلَ العمل، أفلا نُجاهِد ؟
قال: لا، لكنَّ أفضل الجِهاد وأحسنَه حجٌّ مبرورٌ )
والاستِجابةُ لله وإن لم تظهَر الحكمةُ للمأمور من واجِبات الاستِسلام لله،
قال الله لإبراهيم - عليه السلام - وهو في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ:
{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا }
فاستجابَ لأمرِ الله وأذَّن بالحجِّ، وقدِمَ الناسُ إلى بيتِ الله الحرامِ،
مُتشوِّفةً إليه نفوسُهم، باذِلةً في سفَرها الأموالَ وهي فرِحةٌ مُستبشِرة.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -:
[ فليس أحدٌ من أهلِ الإسلام إلا وهو يحِنُّ إلى رُؤية الكعبَة والطوافِ،
فالناسُ يقصِدونَها من سائر الجِهات والأقطَار ]
رُكنٌ يُحقِّقُ الامتِثالَ لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم -،
قال عُمرُ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - عن الحجَر الأسود:
[ إني أعلَمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفَع،
ولولا أني رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُك ما قبَّلتُك ]
والعباداتُ مبنَاها على الاتِّباع ولا محلَّ فيها للابتِداع، الطوافُ والسعيُ سبعةُ أشواطٍ،
وتخفَى حكمةُ عددها على العقول،
لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم – للحَجيج :
( لتأخُذُوا عنِّي مناسِكَكم )
والطوافُ لم يأذَن اللهُ به إلا حولَ الكعبَة، وطوافٌ بغيرِها تبَاب.
والوقتُ عند المُسلم ثمينٌ، ولكل يومٍ في الحجِّ عبادةٌ مُغايِرةٌ لأُختِها،
ولكلٍّ منها زمنٌ بانقِضائِها تنقضِي؛ فالإفاضةُ من عرفة بعد الغروب،
وزمنُ المَبيتِ بطُلُوع الشمسِ ينقضِي.
والتجرُّدُ عن المَخيطِ مُذكِّرُ بدنُوِّ ساعة لُبس أكفَان الموت،
وساقَ الله في آخر آيات الحجِّ:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
وتفاضُل منازِل الناس بالتقوى، وتحصيلُها في الحجِّ خيرُ مغنَم،
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
والقلوبُ تحيَا بذِكر الله، واللهُ أمرَ بالإكثَارِ من ذِكرِه تعالى في جميعِ أيَّام الحجِّ، فقال:
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ }
وخصَّ تعالى مواطِن يُكثَر فيها من ذِكرِه، فقال:
{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ }