ونظير ذلك قوله تعالى في حق فرعون وجنوده:
{ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ *
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ }
أي: فلما أغضبوا الله سبحانه بأعمالهم القبيحة، انتقم منهم،
بأن أغرقهم أجمعين. وهذا الانتقام قد جعله سلفًا يتعظ به الغابرون،
ومثلاً يعتبر به المتأخرون، ويقيسون عليه أحوالهم.
وقد قال الله تعالى محذِّرًا:
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ }
وإذا كان الأولون محكومًا عليهم بالهلاك،
فمن باب أولى أن تكون أعمالهم محكومًا عليها بالفساد وعدم النفع.
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ
قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
أي: هم وما يعبدون هالك لا محالة، وأعمالهم ذاهبة مضمحلة.
وهؤلاء القوم - على ما قيل- كانوا من العمالقة،
الذين أمر موسى- عليه السلام – بقتالهم .
وقال قتادة : كانوا من لَخْمٍ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة .
وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛
{ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ }
فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ.
ونظير قولهم هذا قول جهال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم-
وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمَّى: ذات أنواط،
يعظمونها في كل سنة يومًا-
فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام : الله أكبر ! قتلتم- والذي نفسي بيده-
{ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }
لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة،
حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه.
وكان هذا في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين.
الذين قال الله تعالى فيهم :
{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ *
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ }
{ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ }
والعمل يطلق على كل فعل، يكون من الإنسان بقصد، فهو أخصُّ من الفعل؛
لأن الفعل قد ينسب إلى الإنسان، الذي يقع منه فعل بغير قصد.
وقد ينسب إلى الجماد. والعمل قلما ينسب إلى ذلك؛
{ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ }
ولم يقل سبحانه : ( أَفْعَالُهُمْ كَرَمَادٍ ).
أما الرماد فهو ما بقي بعد احتراق الشيء.
وفي لسان العرب:الرمادُ : دُقاقُ الفحم من حُراقة النار،
وما هَبَا من الجمر فطار دُقاقًا.
وفي حديث أم زرع: زوجي عظيم الرماد. أي: كثير الأضياف؛
ولهذا كان تنكيره في الآية منبِئًا عن ضآلته وخفته، بخلاف ما لو كان معرَّفًا.
وتشبيه الأعمال بهذا الرماد الضئيل الخفيف
ينطوي على سرٍّ بديع من أسرار البيان القرآني؛
وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار،
وإذهابها لأصل هذا وهذا؛ فكانت الأعمال التي لغير الله،
وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها،
وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا؛
كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه،
التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا.
فأثرت النار في أعمال أولئك، حتى جعلتها رمادًا،
فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
ولو شبهت هذه الأعمال بلفظ آخر غير الرماد، كالتراب مثلاً،
فقيل: ( أَعْمَالُهُمْ كَتُرَابٍ ) ،لما أفاد ذلك ما أفاده لفظ الرماد من معنى الخفة،
والاحتراق، وعدم الانتفاع، والعجز عن الاستدراك.