ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ
رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ،
فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ،
ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره ،
ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم ،
لأنه لا خلاف في تقدّمهم في صنعة الشعر ،
ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم .
فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم ، لاختلاف ما يتصرفون فيه ،
استغنينا عن ذكر من هو دونهم ،
وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب و الرسائل و نحوها .
ثم نجد من الشعراء من يجوّد في الرجز ، ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً ،
ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصر
[ تقصيراً عجيباً ، ويقع ذلك من رجزه موقعاً بعيداً ،
ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية ، ولا ينظم الرجز ، أو يقصر ]
فيه مهما تكلفه أو تعلمه .
ومن الناس من يجود في الكلام المرسل ،
فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً بيّناً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.
فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها ، على حدّ واحد ،
في حسن النظم ، و بديع التأليف و الرصف ، لا تفاوت فيه ،
ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا ،
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجود الخطاب ،
ومن الآيات الطويلة والقصيرة،
فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف .
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة
[ تفاوتاً بيِّناً، ويختلف اختلافاً كبيراً .
ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ]
فرأينا غير مختلف ولا متفاوت ، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة ،
فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر،
لأن الذي يقدرون عليه قد بيّنا فيه التفاوت الكثير ،
عند التكرار وعند تباين الوجوه ، واختلاف الأسباب التي يتضمن .
وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيّناً في الفصل والوصل ،
والعلوّ والنزول ، والتقريب والتبعيد ،
وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ،
ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع .
ألا ترى أن كثيراً من الشعراء
قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره ،
والخروج من باب إلى سواه .
حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري ، مع جودة نظمه ،
وحسن وصفه ـ في الخروج من النسيب إلى المديح .
وأطبقوا على أنه لا يحسنه ، ولا يأتي فيه بشيء،
وإنما اتفق له ـ في مواضع معدودة ـ خروج يرتضي ، و تنقل يستحسن .
وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء ،
والتحوّل من باب إلى باب .
ونحن نفصل بعد هذا و نفسر هذه الجملة ،
ونبين أن القرآن على اختلاف [ فنونه ]
وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة و الطرق المختلفة ـ
يجعل المختلف كالمؤتلف ، والمتباين كالمتناسب ،
والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد ، وهذا أمر عجيب ، تبين به الفصاحة ،
وتظهر به البلاغة ، و يخرج معه الكلام عن حد العادة ، و يتجاوز العرف .
وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام
[ الجن ، كما يخرج عن عادة كلام الإنس ] .
فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا .
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَذَاالْقُرْآَنِ
لَا يَأْتُونَبِمِثْلِهِوَلَوْ كَانَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }
[ الإسراء : 88 ]