المفسد الثاني من مفسدات القلب: ركوبه بحر التمني:
وهو بحر لا ساحل له . وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم ،
كما قيل : إن المنى رأس أموال المفاليس .
فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة ، والخيالات الباطلة ،
تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة ،
وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ،
ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية ،
بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية .
وكل بحسب حاله : من متمن للقدرة والسلطان،
وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان ، أو للأموال والأثمان ،
فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها ،
فبينا هو على هذا الحال ، إذ استيقظ فإذا يده والحصير !!.
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان ،
والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره .
فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور .
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم متمني الخير ،
وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله .
المفسد الثالث من مفسدات القلب : التعلق بغير الله تبارك وتعالى :
وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق ، فليس عليه أضر من ذلك ،
ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه ،
فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به . وخذله من جهة ما تعلق به،
وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره ، والتفاته إلى سواه .
فلا على نصيبه من الله حصل ، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل .
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً {81}
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ }
فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله .
فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به،
وهو معرض للزوال والفوات . ومثل المتعلق بغير الله :
كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت ، أوهن البيوت.
وبالجملة : فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها : التعلق بغير الله .
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }
مذموما لا حامد لك ، مخذولا لا ناصر لك .
إذ قد يكون بعض الناس مقهوراً محموداً كالذي قهر بباطل ،
وقد يكون مذموماً منصوراً كالذي قهر وتسلط بباطل ،
وقد يكون محموداً منصوراً كالذي تمكن وملك بحق .
والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة ،
المفسد الرابع من مفسدات القلب : الطعام :
والمفسد له من ذلك نوعان : أحدهما : ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات .
وهي نوعان : محرمات لحق الله :
كالميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وذي الناب من السباع والمخلب من الطير .
ومحرمات لحق العباد : كالمسروق والمغصوب والمنهوب ،
وما أخذ بغير رضا صاحبه ، إما قهرا وإما حياء وتذمما .
والثاني : ما يفسده بقدره وتعدي حده ، كالإسراف في الحلال ،
والشبع المفرط ، فإنه يثقله عن الطاعات ،
ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها ،
فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها ، والتأذي بثقلها ،
وقوى عليه مواد الشهوة ، وطرق مجاري الشيطان ووسعها ،
فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم . فالصوم يضيق مجاريه ويسد طرقه ،
ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا.
( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه .
فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )
[ رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني ]
المفسد الخامس : كثرة النوم :
فإنه يميت القلب، ويثقل البدن ، ويضيع الوقت ، ويورث كثرة الغفلة والكسل
ومنه المكروه جدا ، ومنه الضار غير النافع للبدن .
وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه .
ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخرة ، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه .
وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه ، وكثر ضرره ، ولاسيما نوم العصر .
والنوم أول النهار إلا لسهران .
ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ؟
فإنه وقت غنيمة ، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة
حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير
ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ، فإنه أول النهار ومفتاحه ،
ووقت نزول الأرزاق ، وحصول القسم ، وحلول البركة .
ومنه ينشأ النهار ، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك الحصة .
فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر .
بالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول ، وسدسه الأخير ،
وهو مقدار ثماني ساعات . وهذا أعدل النوم عند الأطباء ،
وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه .
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا : النوم أول الليل ،
عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه . فهو مكروه شرعا وطبعا .
أن يصلح قلوبنا وأن يجنبنا أسباب الردى ، وصلى الله وسلم
وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .